بقلم كوثر شيا
منصة الوهم, وفي إحدى أشهر الرسومات التعبيرية خلال الثورة، يظهر حاكم واقف على منصة يخطب بالحشد. والجمهور أمامه، والمنصة معلّقة على حافة الهاوية. لكن هذه المنصة ليست خشبًا، بل هي أجساد الناس أنفسهم.
هذه الصورة تختصر المعادلة اللبنانية: السلطة قائمة على طاقة الناس، على امتثالهم وصمتهم، على قبولهم لأدوار فُرضت عليهم منذ عقود.
لكن ما لا يدركه كثيرون هو أن القوة الظاهرة بيد النخب ليست سوى وهم جماعي. اللحظة التي يقرر فيها الناس الانسحاب، تسقط المنصة ويظهر أن “السلطة” لم تكن سوى ظلال قائمة على خضوعنا.
الآلية الخفية للهيمنة
النظام اللبناني، بتركيبته الطائفية والاقتصادية، لا يحكم فقط عبر القوانين أو الجيش، بل عبر إعادة برمجة الوعي. وهذه بعض أدواته:
1. نظام المحسوبيات والولاءات
الوظائف والخدمات وحتى العلاج الصحي تمر عبر زعيم أو طائفة. المواطن يُختزل إلى تابع، ويُطلب منه الولاء قبل أي استحقاق. بهذه الطريقة يُعاد إنتاج التبعية جيلًا بعد جيل.
2. إضعاف التعليم والإعلام
التعليم لا يبني عقلًا نقديًا، بل يعيد إنتاج الخوف من “الآخر الطائفي”. الإعلام بدوره يغذّي الانقسام: بدل أن يكشف الفساد، يصنع عدوًا وهميًا بين الطوائف، ليبقى الفساد المشترك بعيدًا عن الضوء.
3. صناعة الفرد المتلقي
الخصخصة وانهيار الخدمات حوّلت المواطن إلى متلقٍ مُرهَق: يبحث عن مولّد خاص، مستشفى خاص، مدرسة خاصة. هكذا تُكسر فكرة الحل الجماعي ويُدجَّن الناس على الاعتماد الفردي بدل التضامن.
الأبعاد النفسية والعقلية والجسدية
• العقل: من التفكير الحر إلى الضبابية
القلق المستمر يجعل الدماغ في حالة “طوارئ” دائمة.
• الفقير منشغل باللقمة والدواء.
• الغني يعيش قلق الفقاعة، يخشى انهيار امتيازاته.
كلاهما مستنزَف وعاجز عن التفكير بعيد المدى.
• المشاعر: الغضب المكبوت
الغضب يتحول إلى قهر، والحزن إلى يأس. النتيجة:
• كراهية متبادلة بين الطوائف والفئات.
• لغة يومية مليئة بالانهزامية: “ما في فايدة”.
هذه ليست مجرد عبارات، بل برمجة عاطفية لقتل الأمل.
• الجسد: الأمراض الصامتة
التوتر المستمر يفرز هرمونات تدمر الجسد: ارتفاع ضغط الدم، أمراض القلب، القلق المزمن. الجسد اللبناني، غنيًا كان أو فقيرًا، يدفع ثمن هذا النظام يوميًا.
الأنماط الثقافية (Stereotypes) كسلاح سلطة
منذ عقود، استُعملت الصور النمطية لتثبيت البنية الطائفية:
• “المسيحي خائف من الاضطهاد”
• “المسلم خائف من الإلغاء”
• “الشيعي مظلوم”
• “السني مهمَّش”
• “الدرزي محبط”
هذه الصور تتكرر حتى تصبح حقيقة نفسية، رغم أنها مجرد أدوات سياسية. كل طائفة تعيش داخل قفص وهمي، تخاف من الآخر أكثر مما تخاف من السلطة التي تستنزفها. النتيجة؟ الشعب يضرب نفسه بنفسه بدل أن يواجه أصل المشكلة.
الذكاء العاطفي الجماعي كمدخل للتحرر
إذا كان النظام يعتمد على الخوف والغضب المكبوت، فإن كسر الحلقة يبدأ من إعادة توجيه هذه المشاعر:
1. الوعي بالذات الجمعية
ندرك أننا لسنا “ضحايا طوائف” بل جسد واحد يُستنزف. الشعب ليس فقط “مصدر السلطات” كما في الدستور اللبناني، بل هو المنصة ذاتها.
2. تحويل الغضب إلى طاقة منظمة
الغضب الصحي يعني احتجاجات واعية، مقاطعة اقتصادية للمنتجات التابعة للنخب، إضرابات تُفقد النظام شرعيته.
3. بناء البدائل من الأسفل
تعاونيات محلية، تعليم مستقل، مبادرات بيئية وصحية. عندما نخلق بدائل، نكسر وهم أن لا حياة خارج “الدولة المريضة”.
4. تحرير الخطاب من الصور النمطية
العدو ليس الآخر الطائفي، بل الفساد المشترك. كسر الصور النمطية يحرر الوعي الجمعي من لعبة “فرّق تسُد”.
كيف نقرأ الصورة اليوم؟
الصورة التي تقول: “The people don’t know their true power” ليست مجرد شعار، بل خريطة طريق.
النخبة واقفة على أكتاف الناس. والناس، إذا تحركوا ولو قليلًا، سيسقط الوهم كله.
اليوم، في ذكرى أحد أيام الثورة، يجب أن نتذكر:
• لسنا ضعفاء، بل مغيَّبين عن وعينا.
• لسنا متفرقين، بل فُرّقنا عمدًا.
• قوتنا ليست في انتظار من يخلّصنا، بل في رفضنا أن نكون المنصة التي يعتليها الآخرون.
بين الوهم والحقيقة
النظام لا يملك قوة حقيقية، إلا تلك التي نعطيها له كل يوم بصمتنا وامتثالنا.
القوة كانت دائمًا في أيدينا. والشفاء يبدأ عندما نكسر دائرة الخوف ونستخدم ذكاءنا العاطفي الجماعي لتوجيه الغضب إلى فعل، والحزن إلى تضامن، واليأس إلى بناء بديل.
الوهم يسقط عندما ندرك أننا لسنا المنصة، بل نحن الأرض، ونحن الأصل.
وعندما يُطبَّق الدستور والقانون، لا تعود هناك حاجة لهذه السلطة المريضة، لأن مقدمة الدستور اللبناني مدنية ووطنية بامتياز: “لبنان وطن حرّ، سيّد، مستقل، نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضًا وشعبًا ومؤسسات، في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور والمعترف بها دوليًا.”
اليوم، مشاهد المهرجانات من الشمال إلى الجنوب، ومن البقاع إلى بيروت، تُظهر وجهًا آخر للبنان، شعب يزرع الفرح بدل الخوف، ويصنع مساحات لقاء بدل الانقسام.
هذه الحلقات ليست مجرد احتفالات، بل هي سياحة داخلية تعزز السلم الأهلي، وتجسّد فعلًا معنى الوطن النهائي الحر، السيّد، المستقل، لجميع أبنائه.