بإسم المواطن اللّبناني الحرّ : متى تبدأ الدّولة استعادة #السّيادة من أمراء القبائل في #لبنان؟

بقلم السّفير د. هشام حمدان

يمارس اللّبنانيّون بعد أشهر قليلة، حقّهم الدّستوري بانتخاب مجلس نيابي جديد ينتج حكومة جديدة تقود البلاد. عاهدت نفسي أن أطلق منذ اليوم، سلسلة مقالات أناقش من خلالها واقعنا الحالي في إطار تجييش العقول اللّبنانيّة، ألمقيمة والمغتربة، ردّا على تجييش الغرائز الذي يعمد إليه دائما ألتّقليديّون، للإبقاء على سلطانهم المستمرّ منذ أكثر من خمسين سنة. في هذه الحلقة، سأتناول الواقع القبلي لمجتمعنا، وكذبة تحوّلنا الحضاري. نحن شعب يعتقد أنّ مظاهره الحضاريّة تعكس عقلا حضاريّا، فيما نحن محكومون عمليّا، بالغريزة القبليّة التي نتوارثها جيلا بعد جيل من مجتمعاتنا المحلّيّة والأهليّة.

في الواقع، إذا عدنا إلى قراءة تطوّر التّاريخ الحضاري في شرقنا الأوسط، يمكن القول وبكلّ ثقة، أنّ شعوبنا ما زالت هي ذاتها: قبائل عربيّة منتشرة على مساحة العالم العربي في إطار أوطان هي أشبه بالإمارات التي سادت منذ القرون الوسطى. نعم، أقول وبكلّ صراحة أنّنا ما زلنا فعلا قبائل منتشرة على مساحة جغرافيّة واسعة. مظاهر المواطنة لدينا، ظاهريّة فقط. أمّا في العمق، فهي ما زالت تقوم على الرّوابط التي بدأت منذ الهجرات من شبه الجزيرة العربيّة، بلاد ما بين النّهرين واليمن.

يثبت التّاريخ يوما بعد يوم، أنّ مصيبة فلسطين الكبرى، كانت في القيادات الشّعبويّة القبليّة العربيّة، ألثّوريّة القوميّة والدّينيّة ألتي رفعت شعارات لا تستطيع تحقيقها، وهي أكبر من قدراتها، ولا تؤمن أصلا بها. كلّ الشّعارات، كانت تهدف الى خدمة مصالح قادة القبائل محلّيّا وإلى ترسيخ زعاماتهم دوليّا، وإرضاء الجمهور المحلّيّ الجاهل. كان هدف الشّعارات دوما، إثارة الغرائز القبليّة لدى النّاس.

أنظروا إلى وطننا لبنان ألذي يُعتبر شعبه الأكثر انفتاحاً، سياسيّا إجتماعيّا وثقافيّا، بين شعوب الدّول العربيّة. في ظاهره، هو وطن رسالة للتّعايش بين المذاهب والطّوائف، ووطن نموذج للممارسة السّياسيّة الدّيمقراطيّة، والحرّيّات العامّة، والإنفتاح الثّقافي، لكنّه في الواقع، كانتونات قبليّة مستمرّة منذ القرون الوسطى. من يقرأ تاريخ لبنان، يرى أنّ المردة، ما زالوا هم ذاتهم في الشّمال اللّبناني، والكنيسة التي تغلّبت على إقطاع آل الخازن وآل حبيش في كسروان مع ثورة طانيوس شاهين، ما تزال هي المرجع للمسيحي. فيما جبل الشّوف وعاليه، يخضع إلى حكم الجنبلاطيّين والأرسلانيّين، وجبل عامل يخضع للهوى الإيراني الشّيعي.

أيّها المواطن! هل سألت نفسك يوما أمام صندوق الإنتخاب عن واقع الوطن الذي تعيشه والذي يحكم يوميّاتك؟ أم أنّك كنت تدلي بصوتك إرضاء غريزتك الممزوجة بالرّوابط العائليّة القبليّة المذهبيّة التّاريخيّة؟ هل سألت نفسك عن حالك طوال السّنوات الماضية بعد سنوات من تصويتك الغريزيّ؟

أيّها المواطن! اي وطن تعيشه؟ لنكن واضحين وصريحين. أنظر إلى أهل جبل عامل، تراهم إيرانيّون، كما كانوا منذ دخل العثمانيّون إلى أراضينا في القرن السّادس عشر، وقاموا بالإنتقام من أهلنا الشّيعة الأبرياء إنتقاما للمجازر التي ارتكبها الفرس ضدّ سنّة العراق. وترى أنّ شعاراتهم هي فلسطين والقدس.

أنظر إلى الشّوف وعاليه ترى الدّروز ما زالوا يركعون على باب الإقطاع الجنبلاطيّ الذي جاء به العثمانيّون من بلاد الأكراد لحماية سلطانهم في جبل لبنان. لا أعرف كيف أصبحوا دروزا. لكن من الواضح أنّه قرار السّلطة العثمانيّة الذي تحوّل إلى واقع قانونيّ من خلال سجلّات العثمانيّين لأهل الملل في البلاد. وبالطّبع، فالشّعار الحنبلاطيّ والأرسلانيّ هو فلسطين.

أنظر إلى كسروان، ما زالت الكنيسة هي المرجع. إستمرّ البعد القبلي لأهل كسروان من خلال الكنيسة. تمسّكت الكنيسة بالعدديّة عام 1920، لرسم سلطانها في لبنان. ورغم التّحوّل العدديّ في البلاد لمصلحة القبائل الأخرى، توقّفت الكنيسة عند شعار المناصفة، راضية بتقاسم النّفوذ القبلي في البلاد. أقامت الكنيسة تحوّلا عمليّا، فقط في علاقاتها الإقليميّة نتيجة التّحوّلات السّياسيّة في المنطقة. فالكنيسة التي تحالفت مع فرنسا الكاثوليكيّة لإرساء سلطانها في البلاد، ولعبت دور الجسر الثّقافيّ والحضاري الأوروبّي مع الشّرق منذ القرن التّاسع عشر، أقامت تحوّلا بتدخّل فرنسي أيضا، بعد تحوّل الواقع العربي إثر الإستقلال “ألقانوني” للدّول العربيّة. تحوّلت الكنيسة الى العروبة رافعة شعار التّعاطف مع فلسطين أيضا.

أنظر إلى أهل الشّمال المردة، ترى أنّ ولاءهم لآل الأسد الذين حكموا سوريّة طويلا، سببه رابط قبليّ قام على أساس علاقة بين كبير آل الأسد وكبير آل فرنجيّة. آل الأسد وآل فرنجيّة رفعوا أيضا شعار فلسطين.

الآن، وبعد أن قطعنا الرّبع الأوّل من القرن الحادي والعشرين، ترانا ما زلنا نسعى إلى إقناع المواطن بضرورة التّحوّل إلى عالم الحضارة الحديثة. هذا ألتّحوّل، لا يتمّ بتعزيز أدائنا على حلبات المسارح، ودخول قاموس غينيز من خلال حجم سندويشات اللّبنة، أو لبس الثّياب الرّياضيّة في ملاعب كرة سلّة وكرة قدم، أو المشي في مسارات التّلال، وإرتياد المطاعم الأنيقة، ورقص أحدث الرّقصات في الملاهي والبارات، وإطلاق اللّحى ولبس الثّياب الحديثة على الموضة الدّارجة. يتمّ التّحوّل الحضاري من خلال إقامة دولة تمنحنا حقّنا الشّرعي بالمواطنة الكاملة وفقا لقواعد الدّستور خارج التّنظيم القبلي. هذا يتطلب توفير الأمان الإنساني الإجتماعي، ألعدالة، ألتّعامل مع المواطن في المراكز الحكوميّة والمؤسّسات العامّة، بكل احترام من دون أيّ تميّيز بيننا، والتّفاعل مع احتياجاتنا من دون منّة، ولا شراء ذمم، ولا مجاملات طائفيّة أو عائليّة أو شخصيّة.

هل تنسى أخي المواطن، أمام صناديق الإنتخاب، واقعك اليومي؟ هل تنسى كم تدفع فاتورة مولّد الكهرباء لأنّ السّلطات السّياسيّة التي كرّرت انتخابها لسنوات طويلة، عجزت عن تأمينه وهو من أيسر الأمور؟ هل تنسى المياه الملوّثة التي تتدفّق في ينابيع قريتك؟ هل تنسى ندرة المياه من قساطل السّلطة ذاتها ألتي انتخبتها مرارا وتكرارا، رغم تدفق الأنهار في بلادنا ووفرة المياه الجوفيّة؟ هل تنسى أنّك وأولادك، يمكن أن تموتوا على أبواب المستشفيات لأنّكم عاجزون عن تأمين رسوم الإستشفاء أو الواسطة من شيخ القبيلة وأعوانه؟ هل تنسى الأدوية المزوّرة التي تفتك بك وبأفراد عائلتك بسبب فساد أهلّ السّلطة أنفسهم ألذين انتخبتهم مرارا وتكرارا؟ هل تنسى من نهب أموال تقاعدك وما جمعته من أتعابك طوال سنين حياتك؟ هل تنسى أنّك تمضي الأشهر الطّويلة لإنجاز معاملة عقاريّة لك أو لأولادك، فيما ينقل “الزّعيم” أكثر من 450 عقار في يوم واحد إلى إبنه؟ هل تنسى إذلالك على أبواب الزّعيم ومن حوله، طلبا لوظيفة هي من حقّك؟ هل تنسى الألم الذي تعانيه عندما تضع أبناءك ألذين صرفت جنى عمرك لتعليمهم، في أوّل طائرة مسافرة إلى الخارج للعمل في بلاد الاغتراب بعيدا عن عينيك وعن الأسرّة والغرف التي أقمتها في بيتك لتفرح بهم قبل غيابك؟ كم واحد انتظرت جثته في الثّلّاجات إلى حين عودة أبنائه من الخارج؟

أخي المواطن، أما آن الأوان لأن نستعيد كراماتنا ونبني وطنا يشابه قدراتنا الفرديّة؟ أنظر في مكانة أولادك حيث يعملون. كم تشعر بالفخر والاعتزاز بهم. لكن، لماذا لا يستطيعون أن فعل هذا الشّيء في بلدهم وفي حضنك؟ ألسب هو صوتك الذي تدلي به متأثّرا بغريزتك، متناسيا أولادك ونفسك. تضحك جزلا فرحا لأنّك تعتقد أنّك تخدم البيئة حولك، فيما هذه البيئة حولك، تنتظر من ينقذها! قم بإنقاذها. كن قائدا في تحوّل بيئتك نحو الغد المشرق. لا تكذب على نفسك، فيما أنت ترفرف كالطّائر المذبوح داخليّا.

اخترنا لك