بقلم جان الفغالي
عادةً لا يُفرِج رئيس مجلس النواب نبيه بري عن مكنونات صدره إلا لقلّةٍ قليلة، وحين تصدر هذه “المكنونات” تكون قد أُشبِعَت تمحيصًا وتدقيقًا قبل أن تخرج إلى النور.
واحدٌ من “القلَّة القليلة” هو الزميل نقولا ناصيف الذي كتب مقالًا، في التاسع والعشرين من آب الفائت، تحت عنوان” عندما يترحّم برّي على اتّفاق 17 أيّار…”.
يرِد في المقال “برّي يقول بخيبة: “يا محلى 17 أيّار”.
وكان استُهِل المقال بالقول :”أن يصل المآل إلى يوم يترحّم فيه الرئيس نبيه برّي على اتّفاق 17 أيّار، فذلك ما ليس في الإمكان تصوّره”.
لكن، يبدو أنه أصبح بالإمكان تصوُّر أن يترحَّم الرئيس بري على 17 أيار الذي “ارتكب إسقاطه” بل كان أحد “الأذرع” (بلغةِ اليوم) التي أسقطت الاتفاق حيث أن القرار كان بيد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد.
اتفاق 17 أيار كان أصبح قانونًا، بعدما صادق عليه مجلس النواب بتاريخ 1983/6/14، والذي أجاز للحكومة إبرام الاتفاق المعقود بين حكومة الجمهورية اللبنانية وحكومة دولة اسرائيل بتاريخ 17 أيار 1983. وسمِّي باسم اليوم الذي فيه تم التوصل إليه، وتمت المصادقة عليه بعد أقل من شهر على التوصل إليه، وكان يحتاج إلى توقيع رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل، ليصبح نافذًا، لكن الرئيس الجميل لم يوقِّعه.
جلسة المصادقة عليه انعقدت برئاسة رئيس مجلس النواب كامل الأسعد يوم الإثنين في 13 حزيران 1983، وتمثلت الحكومة بالرئيس شفيق الوزان، وعدد من الوزراء بينهم ثلاثة وزراء شيعة، وبلغ عدد النواب الحاضرين اثنين وسبعين نائبًا (كان عدد أعضاء مجلس النواب 99 نائبًا، والمتوفون سبعة نواب والمتغيبون تسعة عشر نائبًا)
ثم بدأت مناقشة الاتفاق، في جلستين متتاليتين من يومي الاثنين والثلاثاء في 13 و14 حزيران، تمت المصادقة على “مشروع قانون الإجازة للحكومة إبرام الاتفاق المعقود بين حكومة الجمهورية اللبنانية وحكومة دولة اسرائيل” بأكثرية 65 صوتا، بينهم أربعة عشر نائبًا شيعيًا وعشرة نواب سنة. وجاء معبٍّرًا جدًا ما جاء في محضر الجلسة، وفيه: “بعد ختام المناقشة، شكر دولة رئيس الحكومة (شفيق الوزان) موقف المجلس النيابي الذي حافظ على الشرعية وعمل من أجلها، مؤكدًا متابعة العمل لمصلحة لبنان، كما نوه دولة الرئيس كامل الأسعد بالجو الديمقراطي الوطني المنفتح والجدية والوضوح اللذين سادا المناقشات”.
رئيس مجلس النواب (الشيعي)، ورئيس الحكومة (السني)، وخمسةٌ وستون نائبًا من الأحياء من مجلس 1972، وبينهم الشيعي والسني والدرزي والمسيحي، صادقوا على اتفاق 17 أيار، ولم يكن يحتاج سوى إلى توقيع الرئيس أمين الجميِّل ليصبح نافذًا.
اليوم، بعد اثنين وأربعين عامًا، “يتحسَّر” الرئيس نبيه بري على “اتفاق 17 أيار”، وكأنه في قرارة نفسه يعتذر من رئيس مجلس النواب كامل الأسعد الذي تمت المصادقة على الاتفاق في عهده كرئيس لمجلس النواب. كم كان كامل الأسعد بعيد النظر، وكم كان مَن أسقطه قصير النظر! وهل كان يجب أن ينتظر اللبنانيون اثنين وأربعين عامًا ليسمعوا الاعتذار ممن ساهم في إسقاط الاتفاق؟
استمر اتفاق 17 أيار من دون توقيع رئيس الجمهورية إلى أن الغاه مجلس النواب عام 1987، أي بعد أربعة أعوام على المصادقة عليه.
إنه التاريخ الذي لا يرحم، لكن التاريخ يترحم على كامل الأسعد، الذي يستحق أكثر من اعتذار من الرئيس بري.