لحظة الجيش اللبناني

بقلم هشام بو ناصيف

ما الذي يمكن توقّعه من الجيش اللبناني اليوم، إذ تواجه البلاد واحدة من أكثر محطّاتها دقّة في تاريخها المعاصر؟ الجواب الخاطئ على هذا السؤال هو “الحفاظ على وحدته”، وذلك لسببين:

1) الجيوش لا توجد كي تحافظ على وحدتها بل كي تنفّذ قرارات السلطات السياسيّة الشرعيّة. إعطاء الحفاظ على وحدة الجيوش الأولويّة يعني تحويل المؤسّسات العسكريّة لغاية بذاتها. ولكنّها ليست كذلك. الجيوش وسيلة غايتها تنفيذ الأوامر.

2) لا يوجد جيش في دولة متعدّدة الطوائف حافظ على وحدته عندما اختلفت المكوّنات. الجيش اليوغوسلافي انفجر عندما انفجرت يوغوسلافيا في التسعينات، وكذلك الجيش النيجيري قبل ذلك، والجيش السوري بعد العام 2011. الجيش اللبناني نفسه فقد وحدته خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة وفشلت محاولة إعادة بنائه مرّتين. ينبغي التوقّف عن تحويل وحدة الجيش اللبناني إلى نوع من خطّ أحمر تهون في سبيل عدم تجاوزه كلّ التسويات. وبوضوح أكبر بعد: ينبغي التصالح مع احتمال انفكاك قسم من ضبّاطه وجنوده عنه لو قام بواجبه بالمرحلة الحاليّة.

منذ أشهر، يهدّد “حزب الله” عبر أبواقه الجيش اللبناني بشقّ صفوفه لو تجرّأ على تنفيذ قرار الحكومة القاضي بحصر السلاح بيد الدولة. لا ضرورة لكثير خيال لفهم المقصود هنا بالجيش اللبناني ضبّاطًا وجنودًا شيعة يتأثّرون حكما ببيئتهم المنحازة بشكل شبه كلّي لسلاح “حزب اللّه”. ما يطرحه “الحزب” على الجيش واضح: نسمح لك بالحفاظ على وحدتك، مقابل استمرار الدولة بتخلّيها المديد عن حقّها وواجبها بحصريّة السلاح، وبقائك أنت كديكور لطيف لا يزعج سيطرتنا على لبنان؛ أو نوعز للعناصر الشيعيّة في الجيش بمغادرة المؤسّسة العسكريّة، وربّما بالانقضاض عليها، وعلى المجتمع، لو تجرّأ الجيش على تطبيق قرارات حصر السلاح. ردّ الحكومة اللبنانيّة على هذا المنطق ينبغي أن يكون واضحًا أيضًا: المكان الطبيعي لضبّاط الجيش الشيعة وجنوده هو إلى جانب رفاقهم في صفوفه. لهم ما للآخرين، وعليهم ما عليهم. أمّا إذا تمرّدوا، فستطبّق عليهم القوانين العسكريّة المرعيّة الإجراء. ولكن في الحالتين، إن بقوا، أو رحلوا، قرار نزع السلاح غير قابل للتفاوض. سيطبّق؛ وليكن ما يكون. هذه ينبغي أن تكون سياسة حكومة لبنان. أمّا الجيش، فليس له أن تكون سياسة أصلًا: هو فقط ينفّذ أوامرها.

قبل أيّام، زعمت جريدة “الأخبار” أنّ قائد الجيش اللبناني العماد رودولف هيكل قال إنّه يفضّل الاستقالة على سفك دماء اللبنانيّين. ردّت مديريّة التوجيه بقيادة الجيش ببيان جاء فيه أنّ المؤسّسة العسكريّة ستتصرّف “وفق قرار السلطة السياسيّة”، مع “الحفاظ على أمن الوطن واستقراره الداخلي”. وأمّا التصرّف وفق قرار السلطة السياسّية، فممتاز؛ هذا بالضبط دور الجيش كما أسلفت. ولكن إضافة بند الحفاظ على الاستقرار الداخلي ليس واضحًا: ماذا لو أنّ تنفيذ قرار السلطة السياسيّة يفرض المواجهة العسكريّة مع “الحزب”؟ ماذا يفعل الجيش عندها: ينفّذ قرار السلطة، أم يعتصم بثكناته كي لا يتهدّد “الاستقرار”؟ ومع أنّ كثرًا تفاءلوا بردّ قيادة الجيش ورأوه نفيًا لما ساقته “الأخبار”، تحفّظت عن التفاؤل لأنّني شعرت أنّ اليرزة لا تزال تمسك العصا من وسطها، مع أنّ المرحلة لا تحتمل الرماديّة وتسويات الـ “لا غالب، ولا مغلوب”.

والحال أنّ ذاكرتي تحفظ أسماء سلسلة طويلة من ضبّاط الجيش الذين انحازوا ضدّ مصلحة بلادهم بأصعب ظروفها. للتذكير، تواطأ كثر من اللبنانيّين مع الاحتلال السوري، ولكنّ أحدًا لم يعاون السوريّين ضدّ لبنان كإميل لحّود، وجميل السيّد، وهما من الجيش. واستسلم كثر أيضا للميليشيا الشيعيّة، ولكن أحدًا لم يستسلم لها ويسلّم عهده كميشال عون، وهو من الجيش أيضًا. وتلوح بالبال، زمن الحرب، سلسلة ضبّاط انحازوا إلى عتاة أعداء بلادنا بالاحتلالين السوري والفلسطيني، عنيت أسماء لم تنسها ذاكرة اللبنانيّين، ولا ينبغي أن تنساها، كأحمد الخطيب، وماجد كرامي، وخصوصًا، وليد سكّريّة. هذه السلسلة مستمرّة إلى اليوم عبر ضباط متقاعدين يحتلّون الشاشات ويملأونها تنظيرًا عن “المقاومة” كمنير شحادة، ومروان شربل، علمًا أنّ بوسائل الإعلام أخبار تثير الريبة عن ضبّاط كبار بالجيش قيل إنّهم سلّموا معلومات أمنيّة حسّاسة لـ “حزب الله”، كرئيس الاستخبارات العسكريّة في جنوب لبنان سهيل بهيج حرب. طبعًا، كلّ هؤلاء لا يختصرون جيش لبنان الذي منه أيضًا، على سبيل المثال لا الحصر، النقيب المغوار الشهيد سمير الأشقر، وأبطال معركة الفيّاضيّة الشهيرة عام 1978، وآلاف الرجال الذين قاتلوا بشراسة دفاعًا عن بلادهم في الألوية: الثامن، والخامس، والعاشر، وفوج المغاوير، والقوّة الضاربة، وسواها من الألوية والوحدات، في أصعب الظروف زمن الحرب. الضبّاط والجنود الذين سقطوا مؤخرًا في الجنوب استمرار لهذه القافلة النبيلة من أبطال لبنان.

باختصار: من جيش لبنان خرج ضبّاط وجنود هم فخر بلادهم؛ وآخرون خانوها. العين اليوم على رودولف هيكل الذي لا نعرف عنه الكثير. مهمّته صعبة. ولكن خياره سهل، أو هكذا يفترض على الأقلّ. اللحظة اليوم لحظة الجيش اللبناني. قلوبنا معه. والحكم على قائده معلّق بانتظار القادم من الأحداث.

اخترنا لك