بقلم عقل العويط
هي خارج النمط، وغير عاديّة، وتقول إن الخطأ والكذب تحوّلا في عقول الناس، وبفعل التكرار، إلى حقيقة، هي حقيقة النظام الكونيّ المقيت، واليوتوبيا الاصطناعيّة التي ترسي أسسها تحت نير “الذكاء العامّ”.
هي تقول إنّ الأسوأ سائدٌ وسيّدٌ ومستتبٌّ في الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وإدارة العالم، وعلى كلّ المستويات، وفي أنحاء المعمورة، وهنا. وهذا، لا لأنّ العالم ليس حرًّا، على قول كونديرا، بل لأنّ الناس تخلّوا، وخصوصًا منهم المفكّرين والكتّاب والإعلاميّين وصنّاعَ الرأي، المنصاعين طوعًا لثقافة الفيروس والاستهلاك والرواج والكيتش والكليشيه، عن إعمال العقل المشكِّك، وعن حرّيّتهم، والاعتراض، والسؤال، والنقد، والاختلاف.
هي بروفسورة في الأنتروبولوجيا والعلوم الإنسانيّة، وهو كاتب، وكانا يشاركان في مناقشةٍ فكريّةٍ حول مسألة التدجين الكونيّ، وقد احتدم الأمر بسبب ما اعتبرتْه إهانةً إنسانويّةً من أحد المشاركين لدى قوله إنّ الفلسفة والثقافة والإيديولوجيا والأدب والفنّ لا بأس إذا ماشت الحضارة السائدة، و”الأمر الواقع”، وسارت في ركابهما، وانخرطت فيهما، ما دامت حركة التاريخ ماضيةً في شقّ طريقها، ومن تلقائها، نحو الحرّيّة.
وقفتْ منتفضةً وساخرةً في قلب الصالة، وقالت باستفزاز: أنتَ “خدمتجي الأمر الواقع”.
وحَمِيَ الوطيس تقريبًا، فرُفِعت الجلسة، بحجّة فنجان قهوة، وعلى سبيل تهدئة الروع.
كان في اعتقادها المأسويّ أنّ الكيل قد طفح من الحياة المعاصرة، فالمسألة المطروحة بنيويّة ومصيريّة، وليست فحسب اتّجاهاتٍ فكريّة، ورأيًا ورأيًا مضادًّا.
إنّها، على مفهومها، قضيّة “لحم حيّ”، لا سطحيّة ولا عابرة. وجائرٌ في التشخيص، مَن يستخلص أنّها سرعان ما تضمحلّ.
توصيفها العضويّ للتدجين الحاصل، يرى الوجود الإنسانيّ برمّته وقد بات مقولَبًا إلى حدٍّ لا يُحتمَل، بعدما شيّأتْه مختبرات الكليشيه والقطيعيّة والتنميط وهيستيريا الموضة المصرفيّة.
وخاطبتني، كأنّي أنا ذلك المُحاضِر الأحمق، فقالت، على قول كونديرا، إنّنا نعيش الآن “في مملكة الكليشيه الشموليّ” حيث يفوز “الغنج الروائيّ والشعريّ”، ويربح الكسل العقليّ، والتواطؤ، والاستقالة، والاطمئنان، والاسترخاء النقديّ، والفوضى القطيعيّة غير الخلّاقة، فـ”تُرفع جميع الإجابات مقدّمًا”، و”تُستَبعَد الأسئلة”، ويسود اليقين.
وسيّان هذا “اليقين”، أكان في جنوب العالم أم شماله.
لم يسبق لي أنْ رأيتُها على ثورةٍ جامحةٍ كهذه، وفجأةً ارتأتْ، وضاحكةً، ومستخفّةً (من الخفّة)، أنْ “نهرب” من الجلسة.
ثمّ، وبمبادرةٍ قويّةٍ ومصمِّمة، أخذتني لستُ أدري كيف، إلى البحر، إلى النهر، إلى الغابة، إلى سطوة الخفّة اللّامتناهية، مسترشدةً “أنّ العبء الأثقل يسحقنا، ويجعلنا نرزح تحته، ويلصقنا بالأرض”، وأنّ هذا العبء، هو في الوقت نفسه صورة عن الإنجاز الحيويّ الأكبر، فـ”بقدر ما يكون العبء أفدح، تكون حياتنا أقرب إلى الأرض وأكثر واقعيّةً وصدقًا”. لكنّ “غياب العبء غيابًا تامًّا” في المقابل، “يجعل الكائن البشريّ أخفّ من الهواء، يجعله يطير، يبتعد عن الأرض، عن الكائن الأرضيّ، يجعله واقعيًّا بنصفه فقط، ويجعل حركاته حرّة بقدر ما هي خالية من كلّ معنى. فما الذي يختاره إذن؟ الثقل أم الخفّة؟”.
وأنتَ، يا أنتَ، ماذا تختار؟
أتختار الخفّة أم الثقل، التكرار أم المفاجأة، العادة أم الاكتشاف، الاحتمال أم اليقين، السؤال أم الاستنقاع؟
أتختار هذه الحياة أم الحياة المضادّة، أهذه الرواية أم الرواية المضادّة، أهذا الشعر أم الشعر المضادّ، أهذا “العالم الحرّ” أم الحرّيّة التي تخلّى الناس عنها؟
ومن أدناها إلى أقصاها: أفصِحْ ماذا تختار، يا أنتَ، هذا “العالم الحرّ” أم الحرّيّة التي تخلّى عنها الناس في العالم؟