بري بين شيطنة الدولة وعبادة السلاح

بقلم مكرم رباح

في الذكرى الـ 47 لتغييب الإمام موسى الصدر، خرج الرئيس نبيه بري بخطابٍ بدا في المبنى، للوهلة الأولى، وكأنه يتضمن مفردات مترادفة ومكرّرة، لكنّه يكشف في مضمونه أكثر من أي وقت مضى عن طبيعة الأزمة: “رأس السلطة التشريعية يُحوّل منبر الدفاع عن ميثاق الدولة إلى منصّة تُبرر هيمنة السلاح”.

أبرز ما شدّد عليه بري في خطابه هو أنّ “العقول الشيطانية أخطر على لبنان من سلاح المقاومة”، وهنا قد يقول قائل إن بري بدا وكأنه يعتبر أن المشكلة الجوهرية في هذا البلد ليست في وجود ترسانة خارج سلطة الدولة، بل في الأفكار النقدية التي تجرؤ على المساءلة بشأن شرعية هذا السلاح. واستنادًا إلى هذا الخطاب، يصبح التفكير أشد خطرًا من القذائف، والجدال أفتَك من الصواريخ، وهذا وحده يكفي لتلخيص منطق المنظومة: تجريم العقل وتمجيد البندقية.

هناك أمر آخر في خطاب بري يستحق التوقف عنده، وهو تحويله المسألة إلى موقف “ثأري” مع إعلانه أنّ هذا السلاح هو “شرفنا”، رغم إعلانه أن مناقشة موضوع السلاح ممكنة فقط في إطار “حوار هادئ توافقي”. أي أنّ الشرف لم يعد مرتبطًا بمؤسسات الدولة ولا بسيادتها ولا بدستورها، بل في سلاح حزبٍ واحد يفرض على البلد حوارات لطالما اختبرها اللبنانيون وشهدوا لعقود على عدم التزامها بالشأن الداخلي. وكأن بري يطيح بخطابه مفهوم التشريع والبرلمان إذ اختزل النقاش الوطني وحَصَره بطقس شكلي لا يعالج جوهر المشكلة.

المعادلة هنا مُربِكة بالفعل: لا يتحدث بري في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر كرئيس للسلطة التشريعية، بل اتخذ دور الناطق باسم السلاح. انطلاقًا من موقعه، يُفترض أن يكون بري هو الضامن للدستور، إلا أنه تحوّل إلى محامي الدفاع عن خرق الدستور. ومن على منبر ذكرى الإمام موسى الصدر، الذي تمحور مشروعه حول بناء دولة العدالة والمؤسسات، يعلن بري أنّ الدولة ليست سوى واجهة لتغطية “استراتيجية” الدويلة خارجها.

يتضمن خطاب بري أيضًا تهديدًا مبطّنًا لرافضي السلاح: بَدءًا من التحذير من “العقول التي تراهن على إسرائيل” و”الجهل والتعصب” الذي قد يقود إلى الخراب؛ إنه المنطق القديم الذي يتمثل في أن كل من يرفض هيمنة السلاح يصبح متآمرًا مع العدو. أضف إلى ذلك، كل مطالبة بتطبيق اتفاق وقف النار أو حصر السلاح بيد الدولة تُترجم كخيانة. إنها المعادلة التي جعلت لبنان رهينة منذ عام 1990 حتى اليوم: ترهيب الداخل بعمالة مفترضة، فيما الخارج الحقيقي يتحكم بمصير البلد عبر فائض القوة.

تكمن المفارقة هنا في أنّ بري نفسه يعترف بأنّ إسرائيل لم تلتزم بوقف إطلاق النار، لكنّه يُصرّ على تبرير استمرار وجود السلاح، وكأنّ الرَدّ على خرق الاتفاق لا يكون ببناء جيش ودولة، بل بترسيخ دويلة موازية. هنا يتركز جوهر الخطاب: السلاح لا يحمي لبنان، بل يحمي بقاء المنظومة، ويمنحها القدرة على ابتزاز الداخل والخارج في آن معًا.

حين يقول بري إنّه “منفتح” على مناقشة مصير السلاح ضمن “استراتيجية وطنية”، فهو في الحقيقة يعيد إنتاج اللعبة نفسها منذ اتفاق الدوحة وما قبله من حوارات، تلك الحوارات التي كانت بلا سقف زمني، وبلا ضمانات، ومجردة من أي إرادة حقيقية؛ إنها حوارات لإدارة الأزمة، وليس لحلّها. ولأنّ الرجل يجلس منذ أكثر من ثلاثة عقود على رأس البرلمان، فهو على دراية أنّ إغراق الملف في اللجان والحوارات يعني شيئاً واحداً: بقاء السلاح، واستمرار التعطيل، ودفن أي مشروع للدولة.

الخطورة ليست محصورة فقط في ما صدر عن بري وحسب، بل في أنّ هذا الخطاب يخرج من شخص هو رأس السلطة التشريعية. أي أنّ البرلمان الذي يُفترض أن يكون صوت الناس أصبحت رئاسته في خدمة السلاح ومصالحه. إنه المنطق المعكوس الذي يحكم: السلاح أصبح شرفاً، والعقول النقدية خطراً، والسيادة شعارات.

يحاول بري أن يقدّم نفسه كحامي طائفة وفي الوقت نفسه وصيًا على التوازن الداخلي، لكن في الواقع إنّه ليس سوى شريكٍ أساس في إدامة الخلل الوطني. فباسم الطائفة يكرّس دويلة السلاح، وباسم التوازن يُشَرْعن الخلل، وباسم الحوار يمدّد الأزمة.

الردّ على خطاب بري لا يكون بالدخول في سجال لغوي معه، بل بكشف المنطق الذي تقوم عليه أي محاولة بإقناع اللبنانيين أنّ خلاصهم يمرّ عبر القبول ببقاء سلاحٍ خارج الدولة. أما المطلوب اليوم فهو قلب المعادلة: لا دولة في ظل وجود سلاح ميليشاوي، ولا برلمان يخضع لوصاية، ولا سيادة تحكمها ازدواجية.

لبنان اليوم لا يحتاج إلى “حوار” بشأن السلاح، بل إلى قرار واحد: حصر العنف الشرعي بيد الدولة. هذا ما يَنص عليه الدستور، وما تُحَدده بديهيات أي نظام سياسي. وكل ما عدا ذلك ليس سوى إعادة إنتاج للكارثة نفسها.

خطاب بري الأخير ليس مجرد كلمات تُتلى في مناسبة لبنانية أصيلة كان يجب أن تكون حافزًا لحماية الميثاق، بل إنه انعكاس لجوهر الأزمة اللبنانية: سلطة تابعة لسلاح، وسلاح يختبئ خلف سلطة. لذلك، إنّ مواجهة هذا المنطق تبدأ بكسر احتكار الخطاب، وبتعرية اللغة التي تحوّل الاحتلال الداخلي إلى “شرف”.

في النهاية، ليست العقول الشيطانية هي التي دمّرت لبنان، بل العقول التي قرّرت أن تُسلّم قرار الحرب والسلم لفصيلٍ واحد، وتُقايض سيادة الدولة بمقاعد الحكم. والأشد خطورة أنّ من يُفتَرَض أن يكون حارس الدستور يتحول دوره إلى حارس السلاح ومشتقاته من أزمات تختبئ وراء شعارات الشرف والكرامة.

اخترنا لك