بقلم أنطونيو فرحات
@farhatantonio
إن مهندس مبدأ الخطوة مقابل خطوة هو هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية الأسبق، ثم تبنتها إسرائيل لحل خلافاتها مع العرب بعد حرب 1973 وصولاً إلى التطبيع التدريجي مع الدول العربية حتى عام 2020 التي عرفت “باتفاقات أبراهام”. يكمن جوهر هذه السياسة في تجزئة القضية إلى مراحل صغيرة بدل السعي إلى حلّها بطريقة شاملة ونهائية.
من هنا تبرز عدّة خصائص لهذا المبدأ أبرزها تجزئة القضية وتأجيل الحل العادل والشامل والبقاء بحالة تفاوض دائمة.
نعم أدركت إسرائيل كيف تتقن فن الخطوة بخطوة إذ تركت العرب عامةً والفلسطينيين خاصةً بحالة انتظار دائم، كحل القضية الفلسطينية مثلًا فإتقانها المراوغة وسعيها إلى كسب الوقت مكّناها من تفكيك الجبهة العربية بالمضمون وثبتت على أثرها وقائع استراتيجية لمصلحتها ومكتسبات أصبحت بالنسبة لها من المسلمات من دون أن تقدم أي تنازلات كبرى في القضايا الجوهرية الأمر الذي تؤكده جميع الاتفاقيات الموقعة من قبلها حيث إن التزاماتها الجوهرية غير مكتوبة وإنما مجرد وعود شفهيّة تتراجع عنها متى دعت مصلحتها ذلك.
يتبدى مما سبق بيانه أن لهذا المبدأ إيجابيات وسلبيات، فإيجابياته بالنسبة إلى إسرائيل هو تعزيز قوّتها وتثبيت مكاسبها أما بالنسبة إلى العرب فتكمن سلبياته في إضعاف موقفهم الجماعي وتحويل قضيتهم إلى عدّة قضايا مجزأة ومؤجلة.
أما بالنسبة إلى انعكاس هذا المبدأ على لبنان فتتمثل سلبياته باستغلاله كساحة صراع طويل الأمد إذ تحول لبنان إلى ساحة صراع ومواجهة إقليمية بالوكالة مع خطر فتح ملفات جديدة مع كل خطوة.
يتجلى أن سياسة الخطوة مقابل خطوة جعلت من لبنان بصراعه مع إسرائيل في حالة هدنة أمنية موقتة بدل أن يكون هناك اتفاق سلام شامل. وخير دليل على ذلك هو اتفاق 17 أيار 1983 الذي كان اتفاقًا جزئيًا يؤدي إلى انسحاب إسرائيل ويعالج موضوع الحدود لكنه سقط لأنه لم يعالج جذور الصراع وأسبابه وآلية حلّه بشكل كامل ودائم ومستمر. كما أن من أحد أسباب سقوطه هو أنه لم يحظَ بغطاء وطني لبناني جامع وشامل.
ويبقى السؤال اليوم من سعى إلى إسقاط اتفاق 17 أيار المذكور ووقع عام 2022 على ترسيم الحدود البحرية بمفاوضات غير مباشرة بوساطة أميركية وصولًا إلى التوقيع على اتفاقية وقف إطلاق النار التي كانت بمثابة رفع الراية البيضاء، يريد من الشعب اللبناني أن يؤمن به باعتماده هذه السياسة للوصول إلى أين وإلى ماذا؟ إلى تسليم البلد إلى إسرائيل عبر حروب مصطنعة لا ناقة للشعب اللبناني فيها ولا جمل!!!
أما السؤال الأهم هل استفاد لبنان يومًا من هذه السياسة مع إسرائيل؟ قد تكون الاجتياحات والانسحابات الجزئية التي قامت بها الأخيرة بالإضافة إلى توقيعها اتفاقات هشّة كاتفاقي 17 أيار وترسيم الحدود البحرية خير جواب على أن إسرائيل سعت إلى معالجة الملفات الأمنية والتقنية فقط وتعمّدت بقاء جوهر الصراع قائمًا ويتفاقم من موضوع القضية الفلسطينية وصولًا إلى السيادة الشاملة خارج الحل الكامل والشامل والنهائي.
في الختام من يريد اعتماد سياسة الخطوة بخطوة عليه أن يعلم كيف يخطو أولًا، وأن تكون لديه الشرعية المتجسدة بمؤسسات الدولة الرسمية وحدها، من دون أن يسعى إلى تغليب مصالحه الخاصة على المصلحة العامة وألّا يسعى إلى اعتماد المبدأ المنوه عنه آنفًا لكسب الوقت فقط هذه المرة، مراهنًا بذلك على تبدل شيء في المشهد السياسي لينتشله من مأزقه الحالي.