بقلم رياض عيسى
منذ عقود طويلة، يعيش الجنوب اللبناني حالة من التمثيل الغائب في المجلس النيابي. فالمقاعد النيابية محجوزة وموزعة على قوى محددة، تحولوا مع الوقت إلى أوصياء على الناس لا ممثلين لهم. نواب انشغلوا بخدمة مرجعياتهم السياسية والحزبية، فيما بقيت هموم الناس في قراهم وبلداتهم منسية، وملفات الخدمات والإنماء حبراً على ورق.
اليوم، وبعد الحرب الأخيرة المدمرة، تتضح الصورة أكثر من أي وقت مضى: أكثر من 30 قرية في الجنوب دُمِّرت تدميراً شبه كامل , وعشرات القرى تدمير جزئي، آلاف العائلات هجِّرت قسراً، والناس لا يزالون بعيدين عن بيوتهم وأرضهم ومزارعهم، وممنوع عليهم إعادة إعمار بيوتهم وموؤسساتهم قبل التسويات الكبرى.
فأي تمثيل نيابي هذا الذي يعجز عن حل كل القضايا العالقة في المناطق المحررة من التحرير وحتى اليوم، حيث لا مستشفيات مجهزة تجهيزاً كاملاً تلبي حاجات الجنوب ولا أي فرع من فروع الجامعة اللبنانية، ولا كهرباء ولا مياه كافية ولا أموال كافي للبلديات كي تقوم بأبسط واجباتها تجاه المواطنين، ولا دعم كاف للقطاع الزراعي ولا سياسات لتثبيت الجنوبي بأرضه، واليوم لا ضمانات لعودة الجنوبيين إلى ديارهم؟
لقد دفع الجنوب ثمناً باهظاً: شهداء، معتقلين، تهجيراً، حرماناً مزمناً، وها هو اليوم يدفع مجدداً فاتورة لا تنتهي. ومع ذلك، ما زال الخطاب السياسي السائد هو ذاته منذ سنوات: شعارات كبيرة، ووعود معلّبة، ومواقف لا تعكس أولويات الناس ولا تحمي مصالحهم.
الحقيقة أن الجنوب يحتاج اليوم إلى خطاب مختلف وممثلين مختلفين. خطاب لا يقوم على التخوين أو الاستغلال أو ربط المنطقة بمشاريع إقليمية لا علاقة لها بحياة الناس. خطاب يعيد الاعتبار للمواطن كقيمة عليا، ويضع معاناته اليومية – من إعادة الإعمار، إلى فرص العمل، إلى العيش الكريم – في صدارة الأولويات.
التغيير المطلوب في الجنوب ليس مجرد تبديل أسماء على لوائح السلطة. التغيير الحقيقي يعني استعادة الدور النيابي كمنبر للمساءلة والتشريع والرقابة، لا كمنصة لتبرير الهيمنة أو تمرير التسويات، أو منبر اسبوعي في المناسبات الأليمة. وهذا يعني بناء معارضة جدّية تعبّر عن وجع الناس، وتخاطبهم بلغتهم، وتفتح أمامهم باب الأمل بلبنان مختلف، لبنان الدولة السيدة العادلة، لا خطابات توسع الشرخ بين المواطن والدولة .
إن الجنوب هو مفتاح إنقاذ الجمهورية. فلا دولة قوية بلا جنوب صامد، ولا سيادة بلا أرض محررة ومواطن حرّ والدولة تبسط سيادتها على كامل التراب. والتغيير في الجنوب هو خطوة أولى لإعادة تصويب البوصلة الوطنية، وإثبات أن لبنان يمكن أن ينهض من جديد حين يستعيد أبناؤه قرارهم وإرادتهم الحرة.
من هنا، فإن انتخابات 2026 لن تكون محطة عادية، بل فرصة تاريخية لقول كلمة الحق في صناديق الاقتراع، واختيار ممثلين يشبهون الناس، ويمثلون الجنوب الحقيقي كما هو: جنوب العزّة والصمود والكرامة والشرعية، لا جنوب الحرمان الدائم والتمثيل الغائب، ولا هيمنة لقوى الأمر الواقع عليه.