بقلم زكي طه
في كلمته بمناسبة المولد النبوي الشريف، أعاد نائب الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم التأكيد على الثوابت التي درج الحزب على تردادها في أدبياته وعلى ألسنة قادته منذ سنوات طويلة: فلسطين قضية مركزية، إسرائيل وأميركا عدوان، المقاومة هي قوة لبنان الوحيدة، وتسليم السلاح غير قابل للنقاش. لكن القراءة المتأنية لما ورد في الخطاب الأخير تكشف إصراراً على تجاهل الوقائع الدامغة التي يعيشها لبنان اليوم، وتغاضياً خطيراً عن النتائج الكارثية التي جلبتها مغامرات الحزب، خاصة الأخيرة منها تحت راية “مساندة غزة”، بما خلّفته من قتل وتهجير وخراب للبنانيين.
الاحتلال الإسرائيلي
المفارقة الكبرى أن قيادة الحزب، التي تواصل تقدّيم نفسها كـ “مقاومة”، تدرك جيداً أن سيادة لبنان مفقودة راهناً بفعل الاحتلال الإسرائيلي المتعدد الأوجه: سيطرة جوية وأمنية، غارات واغتيالات يومية، واحتلال ميداني لعدد من المواقع الحدودية الاستراتيجية.
وهي تدرك أيضاً إن ما كان قائماً تحت راية “المقاومة” بات من الماضي، وأن ما تبقى من سلاح معطّل في مواجهة إسرائيل، واصبح عبئاً على اصحابه وعلى البلد في آن واحد. رغم ذلك، يُصرّ الحزب على خوض معركة الاحتفاظ بالسلاح باعتباره غير قابل للتسليم. مبرراً ذلك تارة بحماية البلد، وطوراً بالدفاع عن الطائفة في مواجهة ما يتهدد وجودها. وصولاً إلى تكريسه كقيمة مقدسة يصبح التخلي عنها بمثابة خروج على العقيدة والدين. وبما أن هيمنة الحزب السياسية والأمنية ارتكزت منذ البداية على فائض قوته العسكرية، فإن مصير هذا السلاح غير قابل للنقاش بالنسبة له، لأنه ضمانة راهنة له وللطائفة في الداخل، كما هو أيضاً ورقة بيد النظام الإيراني في مفاوضاته مع الولايات المتحدة بحثاً عن دور إقليمي. وبذلك يبقى لبنان الدولة والمجتمع تحت قبضة الحزب العسكرية والأمنية.
إنكار الواقع
يحاذر الحزب مقاربة نتائج “حرب المساندة” وتداعيات فتح جبهة الجنوب منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة. ويتجنب الاعتراف بسقوط مئات الضحايا وتهجير مئات الآلاف من سكان الجنوب والبقاع والضاحية وسواها، نظراً لاتساع رقعة الاستهدافات الإسرائيلية. ورغم تغافله عن التدمير الواسع الذي اصاب البنية التحتية والعمرانية، إلا أنه لا يجد حرجاً في مطالبة الدولة بتحمّل تبعاتها بشأنه.
بهذا يظهر الخطاب منفصلاً عن الواقع: اللبنانيون يدفعون ثمن حرب لا قرار لهم فيها، والحزب يبررها بشعار “الوحدة الإسلامية” التي لا نعثر عليها. والنتيجة: بقاء لبنان عرضة لحرب مفتوحة عليه، في ظل عجزه الاقتصادي والمالي وانعدام قدرته على المواجهة أو تحمّل التبعات.
مقاومة لمن؟
يُصرّ الحزب على اعتبار “مقاومته” “درع لبنان”، لكن الوقائع تناقض هذا الادعاء. فالبلد يواجه تحديات كبرى في ظل الاحتلال والانهيار، والقرار الوطني مرتهن للسلاح غير الشرعي الذي يحتكره الحزب. وهو الذي لا يكتفي برفض تسليمه للدولة، بل يهدد الحكومة التي يشارك فيها ويخوِّنها لانها قررت البدء بحصر السلاح ضمن المؤسسات الشرعية. وفي هذا الاطار تتكاثر الاسئلة التي لا تجيب عليها قيادة الحزب. إذ كيف يمكن للبنان أن يكون سيداً على أرضه وقرار الحرب والسلم بيد فريق أهلي مسلح؟ وكيف للحكومة أن تمارس صلاحياتها الدستورية وهناك من يصادر دورها وينازعها على حقها في التقرير وعلى دورها ومهامها بقوة سلاحه؟ وكيف يمكن لحزب وافق على شروط العدو بما فيها تسليم السلاح لوقف الحرب على لبنان أن يتهم الدولة بتنفيذ إملاءات إسرائيل؟
الدولة والسلطة
من الواضح أن الحزب يرفض مراجعة تجاربه كما هو حال سائر الاحزاب الطائفية. والمراجعة يجب أن تبدأ بما جرى عام 2000 عندما انسحبت إسرائيل من المنطقة الجنوبية المحتلة دون قيد أو شرط بفضل تضحيات المقاومة. وكيف هدر الحزب الفرصة الذهبية للمشاركة في إعادة بناء الدولة وترسيخ سيادتها، وكيف رفض التخلي عن سلاحه واصر على رفع شعار “المقاومة المستمرة”.
والاخطر كيف تبدلت مهمة السلاح من المقاومة ضد الاحتلال إلى أداة هيمنة داخلية، خاصة عندما استخدم فائض القوة لإعادة تشكيل التوازنات السياسية والسيطرة على القرار الوطني. ثم كيف وظف “معادلته الذهبية”، في الاستحقاقات الرئاسية وعند تشكيل الحكومات وفق شروطه السلطوية. ولماذا لم يتورع في المقابل عن ربط مصير البلد بمحور طهران ـ دمشق، ليصبح سلاحه أداة نفوذ داخلي وخارجي في آن.
استغلال قضية فلسطين
في خطاب الشيخ قاسم حضرت فلسطين مجدداً كعنوان جامع للأمة، لكنه لم يخبرنا متى اجتمعت الامة من أجل فلسطين أو سواها. ولا يختلف الامر بالنسبة للوحدة الاسلامية التي لم يتحقق منها سوى بيانات الادانة والمناشدة للاعداء. يعني ذلك أن القضية الفلسطينية استغلت لإضفاء الشرعية على تدخلات الحزب في ساحتها، وعلى سياسات مرجعيته الايرانية في الساحات العربية، من سوريا إلى اليمن ولبنان وفلسطين، على النحو الذي يعزز النفوذ الإيراني في المنطقة.
وهكذا تحولت فلسطين من قضية تحرر إلى ورقة في لعبة النفوذ الإقليمي والدولي. أما النتائج فقد صبت في طاحونة اميركا واسرائيل، اللتين استغلتا انهيار الدول العربية وتفكك مجتمعاتها لتحقيق سيطرة الاولى على المنطقة وتقدم الثانية على طريق تصفية القضية الفلسطينية وتثبيت مشروعها التوسعي.
التحرير ومعضلة السلاح
في مواجهة الأصوات الداخلية المطالبة بحصرية السلاح بيد الدولة، يرفض الحزب تسليم سلاحه لأنه يدرك أن نزعه بالقوة غير ممكن. لكن الرفض لا يغطي مأزقه. فهو لا يستطيع استخدام سلاحه لا في مواجهة إسرائيل ولا في الداخل، عدا أنه لا يملك مبرراً وطنياً للاحتفاظ به، سوى اعتباره ضمانة لموقعه ومكاسبه في السلطة.
وفي هذا السياق تشكل مقولة “نزع السلاح بالقوة” التي يكررها خصومه وشركاؤه في السلطة، مادة ثمينة جداً يستخدمها لإعلاء راية التهديد ولتخوين من يرفع تلك المقولة أو يطالب بتسليم السلاح.
ولذلك، لم يكتفِ الشيخ قاسم بإعادة سردية المقاومة، بل تباهى بدور مزعوم للحزب في إيصال قائد الجيش جوزف عون إلى رئاسة الجمهورية. الامر الذي يفضح الترابط بين السلاح والسلطة، ويكشف دوره في تعطيل الاستحقاقات وصناعة الرؤساء والتحكم بالمؤسسات، ما يؤكد أن سلاح “المقاومة” كان أداة لتثبيت النفوذ على النحو الذي يخدم مشروعه الطائفي والفئوي ومصالح مرجعيته الاقليمية في آن.
تجاهل الانهيار الاقتصادي
لم يتوقف الحزب يوماً عند الازمة الاقتصادية والمالية التي يعيش لبنان تحت وطأتها منذ سنوات. وفي هذا تجاهل لحصته من المسؤولية عنها باعتباره شريكاً في السلطة وفي جميع الحكومات. والاهم مسؤوليته عن عزل البلد عن محيطه العربي والدولي وعن ربط المساعدات بمصير سلاحه.
يتحدث الشيخ نعيم قاسم عن “إعادة الإعمار” و”مكافحة الفساد” وكأن الحزب ليس جزءاً من منظومة المحاصصة الطائفية والفساد السياسي، ولا طرفاً أساسياً في تعطيل الإصلاحات. والامر مرده على هذا الصعيد أن من يمنع قيام الدولة لا يمكن أن يكون شريكاً في إعادة بنائها، وأن استمرار السلاح خارج الدولة هو السبب الأول في انعدام الثقة الدولية بلبنان، ورهن اقتصاده للابتزاز السياسي.
وحدة بقوة السلاح
يدعو الحزب إلى “الوحدة الوطنية”، لكنه يضع شرطاً مسبقاً: التسليم بحقه في امتلاك السلاح وعدم المساس به “اتركونا وشأننا”. يعني ذلك أن الوحدة الوطنية المطروحة ليست شراكة متكافئة بين المواطنين، بل خضوعاً لمنطق القوة ورضوخاً لهيمنة طرف مسلّح. وهكذا يصبح شعار الوحدة واجهة لإدامة الانقسام الأهلي بدلاً من بناء دولة المواطنة.
إن قراءة خطاب الشيخ نعيم قاسم تكشف إصرار الحزب على الهروب إلى الأمام: عبر ادعاء الانتصارات وإنكار الخسائر الفادحة، والتفريط بالتحرير. والأهم تجاهل تام ليس للاحتلال، بل للهزيمة التي وقعت على البلد والحزب وبيئته جزء منه. علماً أن الضغوط الخارجية لا تستهدف الحزب بل لبنان بمجمله. والاخطر أن الشروط الاسرائيلية تنال من سيادة البلد قبل أي شيء آخر. أما سلاح الحزب المعطل في مواجهة اسرائيل فقد اصبح بالنسبة لها ورقة تستغلها لمتابعة حربها وتحقيق أهدافها المتعددة. أما الادارة الاميركية التي تتبنى تلك الشروط والاهداف فإن ما يعنيها هو ضمانات سيطرتها ومصالحها في المنطقة بما فيها ايران.
والنتيجة هي معادلة قاتلة: لا دولة مع السلاح، ولا سيادة بلا دولة، ولا نهوض ولا إعادة إعمار بدون الدولة.
وعليه فإن الطريق الوحيدة لإنقاذ لبنان يكمن في استعادة الدولة دورها كضامن وحيد للسيادة والوحدة الوطنية، ولوقف حرب اسرائيل عليه، ودفعها للانسحاب ومواجهة شروطه للتطبيع. ودون ذلك، سيبقى البلد ساحة للمغامرات الانتحارية من كل ضفاف الانقسام الاهلي، وميداناً للصراعات والتدخلات الخارجية الدولية والاقليمية، ومسرحاً مفتوحاً للعدوانية الإسرائيلية لفرض شروطها وتحقيق اطماعها، وهذا ما يبقي مصير لبنان الكيان والوطن مشرعاً على كل المخاطر.