عمامة لـ #الشيعة الأحرار

بقلم أمجد اسكندر

المد الشيعي المناهض لـ «حزب الله» تتسع دائرته شعبيًا وعلى صعيد النخب، ولكن هذا المد مهما امتد لن يتجاوز الحد المطلوب ليُشكل البديل الذي ينقذ الشيعة من حالة الاستلاب التي يفرضها «الحزب» عليهم، إلا إذا… وقبل الجواب على «إذا» الشَرطِية، لا بد من تمهيد.

يتحرك الشيعة في مؤسساتهم الدينية من خلال ثلاث مؤسسات كبرى هي المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ودار الإفتاء الجعفري، ومكتب الوكيل الشرعي العام للإمام الخامنئي. يوجد مكاتب ومؤسسات ومرجعيات أخرى، لكن هذه المؤسسات الثلاث لها التأثير الأكبر. وبمسألة نزع السلاح، يقف مَنْ على رأس هذه المؤسسات صفًا واحدًا، وحيث يغالي المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان، والأمين العام لـ «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم، تبدو النبرة أهدأ للشيخ علي الخطيب نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى. ومنذ أن أنشأ الإمام موسى الصدر هذا المجلس، توالت التغييرات في المجتمع الشيعي إلى يوم تصدرت فيه الوجوه الدينية القيادة السياسية للشيعة: «الإمام» الصدر، «السيد» حسن نصرالله وبعده «الشيخ» نعيم قاسم. نبيه بري «المدني» يقدم نفسه حتى اليوم كوكيل سياسي في غياب الإمام الصدر.

المقصود أن الشيعة الذين تعددت رجالاتهم جنوبًا وبقاعًا منذ نشوء الدولة اللبنانية، بدأ مسار أفول «رجال السياسة» عندهم، منذ السبعينات، إلى أن انعدم تأثيرهم تدريجًا. وتبين أن الطوائف اللبنانية الأخرى، حافظت على مبدأ السياسة لرجال السياسة، بينما هذا لم يعد يسري شيعيًا.

وحضر تراث الماضي الديني ولم يترك إلا مساحة ضيقة لما عَداه. تحت وطأة هذه الأثقال، يحاول الشيعة الأحرار أن يلقوا بحبال النجاة لإخوتهم في الدين والوطن، ولا تبدو المهمة يسيرة، وإن كانت غير مستحيلة. قد تُلاقي دعوتهم الإقبال إذا كَثُرَ «الدُعاة» بينهم. هناك العديد من رجال الدين والمؤسسات الشيعية التي تشاركهم القلق، وترى أن «حزب الله» في مسائل شرعية وسياسية ووطنية يختطف الشيعة ويجرهم إلى مهالك.

من محاسن الفقه الشيعي مرونته، وفي أعماق المكون الشيعي تَعلو الهوية اللبنانية على أُممية تصدير الثورة الخمينية. ولكن البيئة الواسعة لا يمكن إقناعها بمشروع الدولة، وليس في المشهد رجال دين يطمئنونهم ويجدون فيهم تكملة لمسار الإمامين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين، اللذين رفعا لواء اندماج الشيعة بمشروع الدولة وحذرا من مخاطر أن يكون الشيعة وقود مشاريع خارجية. الشيعة الأحرار يتحركون على وقع الحداثة السياسية على الطريقة الأوروبية، وبينهم أنصار يسار بما تبقى منه من نضارة أو يباس.

وفي المحصلة لسان حالهم يقول: «للسياسة رجال وللدين رجال». الحل الذي يقدمونه للشيعة علمانية يجري عادة تخفيفها بكلمة «المواطنة»، وهي كلمة قد تُخفي مضامين كثيرة وقد تعني لا شيء أحيانًا. الشيعة الأحرار يدعون الشيعة إلى شيء غير معتمد عند غيرهم: المواطنة! ويا لها من كلمة. المواطنة تفرض أن تكون الدولة دولة أفراد، ونحن في لبنان دولة «جماعات» لا أفراد. فكيف نطلب من»الجماعة الشيعية» التي تعاني من التهاب حاد، أن تتحول، وفي هذا الظرف الإقليمي بالذات، إلى «مواطنين صالحين»، بينما عند الطوائف الأخرى، لا يزال الحس الجماعي أيضًا في أعلى درجاته؟

وللتذكير، قبل الحرب كان الشيعة الأكثر علمانية، ومع الحرب وما بعدها تحولوا أكثر المُبتعدين عنها. وفي كل الطوائف الأخرى ليست الموجة العلمانية أو «المواطنية» هي الطاغية حتى يُصدِّقَ الشيعة أن ثمة من ينتظرهم في منتصف الطريق. وبالتالي يجب أن يتصدر المشهد رجال دين شيعة في القيادة المباشرة أو «مرجعية تقليد» سياسية، تظلل حركة الأحرار الذين يجب أن يكونوا «حركة واحدة»، لا حركات كما هو حاصل. رجال دين يقدمون الإطمئنان النفسي لإخوتهم المثقلين بالمحظورات التي أقامها شرع «الولي الفقيه»، والتي لا تتفكك بسهولة.

ثمة خطوات مهمة بدأت على طريق استرداد مشروع الدولة وكل رسائل طمأنة الشيعة التي تصدر من الدولة ومن الأحزاب يقابلها «حزب الله» وامتداداته بالصد. في المقابل ليسوا قلائل المعممون المنادون بمشروع الدولة. أين صوتهم؟ البحث عنهم ومعهم أهم من الندوات والبيانات على أهميتها.

ليست مصادفة أن رجل دين هو الإمام موسى الصدر، جاء كالإعصار وقاد الشيعة رغم تجذر قياداتهم الإقطاعية. هذا الرجل المُعَمم سحب الشيعة من تحت نير الإقطاع ومن أوهام اليسار الماركسي والماوي، وما بينهما. عمامة على رأس الصدر غلبت في وقت واحد طربوش الإقطاع وبيريه اليسار. مع تمادي الحرب كان واضحًا أن الصدر بدأ يأخذ مسافة عن قوى اليسار والهيمنة الفلسطينية، واختطف في لحظة هذا المفترق الذي كان يشق طريقَه. لا نعلم كيف كان سيتجه بالأحداث، ولكن تشديده على نهائية الكيان كان حجر زاوية. المظهر البرجوازي والحداثي لرموز الشيعة الأحرار، لا يكفي، بل يُباعد بينهم وبين البيئة التي نذروا أنفسهم صادقين لخيرها وخير الوطن.

والمسؤولية تقع أيضًا على رجال الدين المعارضين لنهج «حزب الله»، هناك المتعفف والمتباطئ، والذي لم تأت ساعة وقوفه على المنبر بعد. قد يبدو هذا الكلام رجعيًا، إذ في القرن الحادي والعشرين، هناك من يقترح أن ينضم إلى الخيار الشيعي البديل رجال معممون، يتقدمون الصفوف إن بالمباشر أو بطريقة من الطرق. من يتحسس من ذلك يتجاهل زهاء خمسين سنة من التغييرات المجتمعية التي أحدثها «حزب الله» في نفوس الشريحة العظمى من الشيعة. في كل حال مسؤولية الشيعة الأحرار كبيرة ونبيلة، ويا ليتهم يجتمعون تحت راية واحدة، أو تكون راياتهم تحت عباءة واحدة. الحراك قد يأتي بالبركة ولو بعد أكثر من حراك ومخاض. ما سبق كلام محبة وحرص.

اخترنا لك