#القمة_العربية في #الدوحة : لحظة حاسمة لإعادة رسم ملامح النظام العربي ورسالة وحدة إلى العالم

القمة التي كسرت جدار الصمت

القمة التي كسرت جدار الصمت

بقلم د. عبد العزيز طارقجي

انعقاد القمة العربية الطارئة في الدوحة لم يكن مجرد اجتماع بروتوكولي لتبادل الخطب والبيانات الختامية، بل مثل منعطفًا استراتيجيًا في التاريخ السياسي العربي.

لقد جاءت القمة في لحظة إقليمية مضطربة، حيث تتشابك النزاعات الداخلية، وتتداخل التدخلات الخارجية، ويبحث المواطن العربي عن بارقة أمل تعيد له الشعور بالكرامة والسيادة.

هذه القمة حملت رسالة مفادها أن العالم العربي، رغم التحديات والانقسامات، ما زال قادرًا على بلورة موقف موحّد يعبّر عن الإرادة الجماعية للأمة، ويعيد وضع أولوياتها على الطاولة الدولية.

توحيد الصف العربي: من الشعار إلى الفعل

أبرز ما ميّز هذه القمة هو الانتقال من الخطاب الإنشائي إلى الفعل السياسي الملموس. فقد توافقت الدول المشاركة على مواقف موحّدة تجاه القضايا المصيرية:

– القضية الفلسطينية عادت لتكون في صدارة الاهتمام العربي، ليس فقط كشعار بل كمشروع تحرك دبلوماسي وقانوني مشترك في المحافل الدولية.
– الأزمات الإقليمية مثل سوريا واليمن وليبيا، حظيت بتوافق غير مسبوق على أولوية الحلول السياسية ورفض أي محاولات لفرض الأمر الواقع بالقوة.
– الأمن العربي المشترك تم ربطه بمفهوم الأمن الجماعي الذي يحمي كل دولة من أي تهديد خارجي أو داخلي يهدد استقرارها.

هذه القرارات الجماعية ليست مجرد توصيات، بل هي – إذا ما تم الالتزام بها – تشكل بداية حقيقية لإعادة بناء منظومة العمل العربي المشترك على أسس جديدة.

الدور السعودي: شجاعة القيادة وصياغة التوافق العربي

لا يمكن فهم مخرجات القمة من دون التوقف عند الدور السعودي الذي شكّل العمود الفقري للتوافق العربي.

فقد جاءت كلمة المملكة العربية السعودية حاسمة وحاملة لخطاب سياسي وقانوني متماسك، إذ أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان – بوضوح غير مسبوق – دعم بلاده الكامل لدولة قطر في استضافة القمة وقيادة الحوار، مؤكداً أن وحدة الصف العربي هي الخيار الإستراتيجي الوحيد لحماية الأمن القومي المشترك.

الأثر الأبرز لهذا الموقف تجلّى في صياغة البيان الختامي، حيث دفعت الرياض باتجاه تضمين التزامات قانونية محددة لوقف الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، وتفعيل الآليات الدولية لإلزام الاحتلال بالقانون الدولي الإنساني وقرارات مجلس الأمن.

كما أصرّت على تثبيت مبدأ وحدة الأراضي السورية ورفض أي ترتيبات انفصالية أو وجود عسكري أجنبي غير شرعي، وهو ما انعكس بوضوح في نصوص القمة.

إلى جانب ذلك، تبنّت السعودية مطلب وقف الحرب على غزة فورًا وفتح ممرات إنسانية تحت إشراف دولي، ما منح الموقف العربي وزنًا تفاوضيًا جديدًا أمام المجتمع الدولي.

لقد كان الموقف السعودي بمثابة المحرّك السياسي والقانوني الذي نقل القمة من كونها منصة خطابات إلى ساحة لصياغة رؤية عملية وإرادة تنفيذية.

الموقف السوري: عودة العمق العربي إلى مركز القرار

كان حضور الرئيس السوري أحمد الشرع في القمة العربية لحظة لافتة رسخت عودة سوريا إلى مركز القرار العربي بعد سنوات من العزلة.

جاءت كلمته متوازنة وعميقة، شدد فيها على أن سوريا قلب العرو
بة النابض لن تكون بعد اليوم ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، وأن الحل السياسي وفق قرارات الشرعية الدولية هو المسار الوحيد لإنهاء الأزمة التي استنزفت المنطقة لأكثر من عقد.

هذا الحضور أعاد تثبيت مفهوم العمق الإستراتيجي العربي الذي تمثله دمشق، وفتح الباب أمام تفعيل التعاون العربي في ملفات الأمن الإقليمي، مكافحة الإرهاب، وتهيئة الظروف لعودة النازحين السوريين إلى وطنهم بكرامة وأمان.

كما أن إصرار الرئيس الشرع على رفض مشاريع التقسيم والوجود العسكري الأجنبي غير الشرعي منح البيان الختامي قوة سيادية مضاعفة، وأكد أن سوريا عادت لتلعب دورها الطبيعي كركيزة أساسية في النظام العربي.

البعد القانوني: من البيانات إلى آليات التنفيذ

من زاوية القانون الدولي، اكتسبت القمة أهميتها في إعادة التأكيد على شرعية القرارات الأممية ورفض الانتهاكات التي تمس سيادة الدول. البيان الختامي لم يكتف بالتنديد، بل دعا إلى تحركات عملية في:

– مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لاستصدار قرارات تلزم القوى الكبرى باحترام القانون الدولي الإنساني.
– المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة.
– إصلاح جامعة الدول العربية نفسها عبر تطوير آليات فضّ النزاعات وتفعيل ميثاق الدفاع العربي المشترك.
بهذا المعنى، كانت القمة بمثابة إعادة تموضع للقانون العربي كأداة ضغط على المجتمع الدولي، وليس مجرد وثيقة رمزية.

البعد الاستراتيجي: رسالة إلى العالم

القمة العربية في الدوحة لم تكن فقط رسالة داخلية موجهة إلى الشعوب العربية، بل أيضًا رسالة للخارج:

– إلى القوى الكبرى: أن العرب ليسوا فرادى يسهل تفكيكهم أو استغلالهم، بل كتلة سياسية قادرة على صياغة موقف موحد.
– إلى القوى الإقليمية غير العربية: أن التدخلات في الشؤون الداخلية للدول العربية لن تمر دون ردّ جماعي.
– إلى المنظمات الدولية: أن النظام العربي يسعى لشراكة قائمة على الاحترام المتبادل والعدالة، وليس التبعية.
هذه الرسالة تعيد التوازن إلى العلاقات الدولية وتضع العالم العربي كرقم صعب في معادلة الأمن والسلام العالميين.

الخاتمة، بداية عهد جديد؟

يبقى السؤال الجوهري: هل ستترجم هذه المخرجات إلى سياسات فعلية على الأرض؟ القمة العربية في الدوحة منحت العرب فرصة تاريخية لإعادة صياغة مستقبلهم بأيديهم. التحدي الأكبر الآن هو الالتزام بما تم الاتفاق عليه، وتحويل القرارات إلى واقع ملموس يشعر به المواطن العربي في حياته اليومية.

إنها لحظة فارقة، إما أن تكون هذه القمة بداية لعهد جديد من التضامن العربي والعمل المشترك، أو تتحول إلى فرصة ضائعة أخرى تضاف إلى سجل الإخفاقات.


* صحفي استقصائي وباحث في الانتهاكات الدولية لحقوق الإنسان

اخترنا لك