بقلم جمال حلواني
عاد أيلول من جديد، بكل تفاصيله الصغيرة: نهاية صيف وبداية خريف، أول نفحة لتراب الشتاء، وأوراق الشجر الصفراء المتناثرة على الطرقات والمساحات الخضراءإلى تراجع. بدأ هذا الشهر ومعه تعود الذاكرة محمّلة بعناوين وتواريخ صنعت منعطفًا في حياتي كما في حياة بيروت ولبنان. أيلول ليس مجرد شهر في فصل من السنة، بالنسبة لي واعتقد للكثير من اللبنانيين هو شهر الحزن والدم، كما هو شهر المقاومة والولادة الجديدة في مواجهة الاحتلال.
في الرابع عشر من أيلول 1982، اقتحم جيش الاحتلال الإسرائيلي بيروت بعد اغتيال بشير الجميّل رئيس الجمهورية المنتخب. بدا المشهد وكأن العاصمة وقعت تحت السيف، لكن الإرادة لم تنكسر. مجموعات قليلة واجهت جنود الاحتلال ودباباته في شوارع العاصمة، وأوقعوا في صفوفهم خسائر جسيمة. حفنة من المقاومين خاضوا مواجهات مباشرة، التحمت فيها الأجساد بالآليات، في مشهد لا يزال حاضرًا في الذاكرة الوطنية.
ففي السادس عشر من أيلول، جاء الإعلان الذي يقول بأن شعب لبنان لم ولن يستسلم وأنه قرر المقاومة. تضمن الإعلان دعوة اللبنانيين للمشاركة في مقاومة الاحتلال تحت راية المقاومة الوطنية اللبنانية، و المشاركة أيضاً في معارضة السلطة الجديدة. سريعاً انطلقت شرارة المقاومة وبدأت العمليات ضد جيش العدو في شوارع العاصمة.
وتحت غطاء الاحتلال، سعت قوى محلية لتصفية حسابات قديمة مع خصومها. وبدل أن يكون سلاحها موجّهاً ضد العدو، جرى استخدامه لترهيب المعارضين. الخطف والاعتقال صارا وسيلة لتكريس سلطتها الجديدة، وتأكيد سيطرتها الطائفية لأن مشروع خصومها قد هزم وانهار اكثر قواه. اصبح الخطف وسيلة للقمع والترهيب، وفي سياقه استهدفت قيادات وكوادر من احزاب الحركة الوطنية، وكان للشيوعيين حصة وازنة عقاباً لهم. وفي الرابع والعشرين من أيلول 1982، اقتيد عدنان حلواني علانية من منزله في رأس النبع.
لم يكن الامر مفاجئا لعدنان. من موقعه عضو المكتب السياسي لمنظمة العمل الشيوعي، ومقرر المجلس السياسي للمدينة، كان يدرك حجم المخاطر الزاحفة في ركاب الاحتلال. وقد قال لي بوضوح: “المرحلة المقبلة شديدة القسوة، لن تكون التصفية سياسية فقط، بل جسدية أيضاً”. وما جرى بعد أيام قليلة أثبت صحة تقديره.
في التاسع والعشرين من أيلول، انسحب جيش العدو من بيروت بعد عشرات العمليات التي نفذتها المقاومة الوطنية. انسحب قوات الاحتلال تحت النار، لا بفضل مفاوضات ولا اتفاقات ولا برفع الرايات البيضاء. غياب عدنان، ورفاق آخرين، جعل الانتصار ناقصاً، وجعل الأسئلة تلاحقنا حتى اليوم.
لم يكن عدنان مجرّد قائد سياسي أو حزبي. كان إنساناً حاضراً في حياة رفاقه وبين أبناء مدينته. آخر لقاء لنا في صباح ذلك اليوم المشؤوم، في منطقة الملا ـ الظريف. أوصاني أن أكون حذراً، وقبل أن يسأل عن الرفاق في بيروت وعن العمليات المقبلة، قال لي “إنهم يريدون قتلك وتصفيتك”.
لم يكتفِ عدنان بدوره في الميدان العسكري والسياسي. كان حاضرًا في تفاصيل الحياة اليومية للناس. خلال حصار بيروت نظم لجان الأحياء، وأشرك النساء والأمهات في أعمال الإغاثة وفي توزيع مساعدات غذائية على البيوت الصامدة رغم القصف الإسرائيلي المجنون.
أذكر جيدًا حين استدعاني من محور المتحف، على بعد أمتار قليلة من مواقع الدبابات الإسرائيلية وحواجز حلفائها، وطلب مني توزيع شاحنة محمّلة بالمساعدات الغذائية على سكان رأس النبع. لم يكن الامر مجرد عمل إغاثي، بقدر ما كان فعل مقاومة وتعزيز لصمود الناس وتأكيد على أن بيروت لم تخضع.
عقود من الزمن مضت من اعمارنا، تبدّل الكثير. بعض أفراد العائلة رحلوا، آخرون هاجروا إلى بلاد بعيدة، والأبناء صاروا آباءً، وصرنا نحن أجداداً نحمل أثقال الذكريات دون ملل من تكرار روايتها.
حضورك يا عدنان قائم يومياً. صورتك لم تزل بيننا، ووصاياك تلاحقنا.
أخاطبك اليوم وكأننا نجلس معاً نتشارك الحديث حول شؤون البلد وقضاياه، وحول الشأن الاجتماعي والعائلي…
بيروت التي أحببتها وأعطيتها كل ما لديك، ما زالت مدينة جريحة، لكنها لم تنكسر. مثلك، لا تزال ترفع رايات الصمود.