بقلم محمد عبدالله
في لحظة سياسية هي الأخطر منذ سنوات، خرج الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم بخطاب فاجأ الداخل والخارج، داعياً السعودية إلى “فتح صفحة جديدة” مع الحزب. دعوة كهذه لم تكن مألوفة في خطاب حزب الله، وجاءت في توقيت شديد الحساسية، تزامن مع العدوان الإسرائيلي على الدوحة، واستمرار القصف جنوب لبنان وآخره مجزرة بنت جبيل، ما جعل الخطاب مادة لنقاش واسع بين المراقبين وصناع القرار.
السياق الإقليمي: رسائل متقاطعة
لم يكن خطاب قاسم معزولاً عن مشهد إقليمي متوتر وحراك دبلوماسي محموم.
الموفد السعودي الأمير يزيد بن فرحان يجول في بيروت حاملاً رسالة واضحة: لا استثمار سعودياً ولا إنعاش اقتصادياً قبل أن تحتكر الدولة السلاح بيد الجيش اللبناني.
في المقابل، جاءت الموفدة الأمريكية مورغان أورتاغوس بإنذار أكثر حدة: أمام لبنان أسابيع قليلة قبل أن تتحول القرارات الدولية إلى إجراءات ضغط وربما عقوبات على الجهات المعطلة.
هذا التزامن يضع خطاب قاسم في إطار محاولة واضحة لاقتناص اللحظة وتوجيه رسائل تهدئة، في وقت تعود فيه السعودية إلى المشهد اللبناني مدعومة بزخم عربي ودولي ومزاج شعبي متذمر من الانهيار الاقتصادي المستمر.
دوافع الحزب: قراءة متعددة المستويات
المراقبون انقسموا في قراءة خطاب قاسم بين من رآه تحولاً استراتيجياً ومن اعتبره مجرد مناورة تكتيكية. ويمكن تلخيص الدوافع في ثلاث نقاط رئيسية:
1. إشارات إيرانية محتملة
قد يكون الخطاب انعكاساً لمزاج جديد في طهران، خصوصاً مع المفاوضات التي تجريها مع دول الخليج بشأن اليمن والعراق وسوريا. تخفيف حدة المواجهة مع السعودية قد يكون محاولة لتقليل الضغط على إيران وسط أزماتها الداخلية والعقوبات الأمريكية المتصاعدة.
2. أزمة داخلية خانقة
الحزب يعاني ضائقة مالية حادة بعد تقلص التمويل الإيراني والعقوبات الغربية، ما أثر على التزاماته تجاه بيئته الحاضنة. شكاوى تتصاعد من توقف مشاريع اجتماعية، وشيكات “القرض الحسن” تباع اليوم بنصف قيمتها في السوق السوداء. هذا الواقع يدفع الحزب إلى البحث عن متنفس سياسي واقتصادي، حتى لو عبر خصوم الأمس.
3. محاولة استعادة الدور الإقليمي
قد يراهن الحزب على إعادة تسويق نفسه كقوة مقاومة عربية ضد إسرائيل، مستفيداً من الغضب العربي بعد قصف الدوحة. لكن أولويات العالم العربي اليوم باتت تميل إلى الاستقرار وبناء الدولة أكثر من المواجهات العسكرية.
التخبط داخل الحزب
خطابات قاسم الأخيرة بدت في أحيان كثيرة غير منسقة، ما اعتبره البعض مؤشراً على ارتباك داخلي بين الجناح السياسي والعسكري، وبين القيادة وقواعدها الشعبية.
هذا التخبط انعكس في قرارات داخلية، أبرزها إقالة المسؤولة الإعلامية في الحزب رنا الساحلي في إطار إعادة هيكلة واسعة. هذه التطورات تكشف أن الحزب يقف أمام مفترق طرق حاسم: إما الدخول في تسوية تعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والسلاح، أو المضي في مواجهة قد تفقده ما تبقى من رصيده الشعبي والإقليمي.
الموقف السعودي الحاسم
الرد السعودي على خطاب قاسم كان واضحاً وصارماً: “المملكة لا تحاور ميليشيات”، كما صرّح السفير السعودي السابق في لبنان علي عواض العسيري.
مصادر الأمير يزيد بن فرحان شددت بدورها على أن أي دعم اقتصادي للبنان مشروط بتنفيذ قرارات الدولة اللبنانية المتعلقة بحصرية السلاح، مؤكدة أن العلاقة مع لبنان تمر حصراً عبر مؤسسات الدولة الشرعية.
في المقابل، وجه بن فرحان رسائل إيجابية نحو الطائفة الشيعية، مؤكداً رفض المملكة لأي صدام داخلي ودعمها لاحتضان الشيعة ضمن كنف الدولة اللبنانية.
أسابيع حاسمة للبنان والحزب
مصادر ديبلوماسية كشفت أن المهلة أمام الحكومة اللبنانية قصيرة جداً – أسابيع أو أشهر قليلة – قبل أن تتحول المطالب الدولية إلى إجراءات على الأرض وربما قرارات أممية ملزمة. وصول الموفدة الأمريكية أورتاغوس إلى بيروت يعزز هذا الاتجاه ويزيد الضغط على الحزب والحكومة معاً.
بين الفرصة والهاوية
خطاب نعيم قاسم ليس مجرد مناورة إعلامية، بل مؤشر على مرحلة حرجة يمر بها الحزب ولبنان معاً.
إما أن يلتقط الحزب فرصة الانخراط في مشروع الدولة والقبول بجدول زمني واضح لحصر السلاح، أو أن يذهب إلى مواجهة مع الداخل والخارج معاً – مواجهة قد تقوده إلى نهايات غير محسوبة وتضع لبنان على حافة صراع جديد لا يملك ترف خوضه.