#المقاومة وسيلة وليست قادرًا : دروس مستفادة من #الياس_عطاالله

بقلم مكرم رباح
@makramrabah

إن مقابلة النائب السابق إالياس عطاالله، مُنَسّق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية “جمّول” مع الصحافي غسان شربل، لا تندرج في إطار الحنين “نوستالجيا” لزمن مضى، بل إنها بمثابة تمرين علني على تصالح الذات مع الماضي. تُظهر سرديّة الياس عطاالله ثلاث قِيَم يفتقدها حاضر لبنان: النقد الذاتي، أخلاقيات الفعل المقاوم، ووضوح الغاية من القوّة. هذه القِيَم ليست ترفًا فكريًا، لا بل إنها شرط للتمييز بين مقاومة تُحرِّر ثم تتنحّى، ومقاومة تحوّل السلاح إلى مهنة وتجعل البلد رهينة.

أولًا، التصالح مع الماضي. يعترف عطاالله ومَن مَعه بأنهم أخطأوا، وأن الحرب ليست قَدرًا، وأن قرارات كبيرة، بَدءًا من طرابلس وصولًا إلى محطات أخرى، كانت تدفعها أحيانًا اعتبارات خاطئة أو حسابات يشوبها الالتباس. لا يُعد الاعتراف هنا طقسًا من طقوس جلد الذات، بل إنه تأسيس لوعي سياسي جديد مفاده: أن البطولة لا تُقاس بعدد الرصاصات، بل بالقدرة على النقد الذاتي للتجربة وتبديل مسارها. وهذا ما فعله كثيرون ممن انتقلوا من العمل المسلّح إلى العمل السلمي، حاملين في جعبتهم سؤالًا يتمحور حول المسؤولية لا حول ذريعة “الظروف”.

ثانيًا، أخلاقيات المقاومة. إن قصة سهى بشارة ومحاولة اغتيال أنطوان لحد ليست تفصيلًا عابرًا في ذاكرة الحرب. في الوجدان اللبناني ارتبط اسم سهى بالبطولة والجرأة، فتاة في مقتبل العمر تدخل بيت قائد جيش لبنان الجنوبي وتطلق النار عليه. لكن رواية الياس عطاالله تُبرز وجهًا آخر: الحذر الأخلاقي من أن يتحوّل الفعل المقاوم إلى فعل انتقامي يفتقد إلى الحدود. فبالنسبة إليه، المشكلة لم تكن في شجاعة سهى أو إخلاصها، بل في السؤال العميق وهو: هل يمكن أن نتعامل مع بيتٍ فيه زوجة وأولاد كما نتعامل مع ثكنة عسكرية؟ وهل يجوز أن تختلط الخصومة مع الاحتلال بقدسية البيت والعلاقات الإنسانية؟

لم يكن اعتراض عطاالله تقنيًا أو عسكريًا، بل إنسانيًا وأخلاقيًا، وهو بذلك فتح الباب لنقاش تفتقر إليه ثقافة العمل المسلّح: أن المقاومة لا تُقاس فقط بنتائجها العسكرية بل أيضًا بمعاييرها الأخلاقية. من دون هذه المعايير، يصبح الفارق ضئيلًا بين من يَدّعي مقاومة الاحتلال وبين من يُمارس الإرهاب. تُذكّر سهى، برمزيتها، اللبنانيين بأن الفرد قد يغامر بحياته من أجل قضية، لكن شهادة عطاالله تُسلط الضوء على أن القضية نفسها تَفقد معناها إن لم تُضبط بميزان القِيَم والإنسانية.

ثالثًا، المقاومة وسيلة وليست هدفًا. في رواية عطاالله، الهدف واضح وهو: تحرير الأرض وتسليمها للدولة. أي شيءٍ خارج عن هذا الإطار هو سياسة، تُحسم في المؤسسات لا على الفوهات. هنا يفترق “القديم” عن “الجديد”: فالذين يقدّمون أنفسهم اليوم كورثة لخطاب المقاومة، مِن أتباع “الحرس الثوري الإيراني” في لبنان، لم يحرّروا دولةً ليسلموها لمواطنيها، بل امتهنوا حَمل السلاح لتثبيت وصاية على المجتمع والدولة، واغتالوا المعارضين والمقاومين السابقين، ودمّروا عمران لبنان واقتصاده وشيعته معًا. تحوّلت “المقاومة” عندهم من وسيلة ظرفية إلى هوية دائمة، ومن واجب دفاعي إلى رخصة مفتوحة للقتل والقمع والتهريب وتبييض الخراب. هذا ليس مشروع تحرير؛ بل هو اقتصاد حرب.

تُبرِز المقابلة أيضاً معنى الذاكرة العادلة: لا بطولات من دون محاسبة، ولا سردية من دون إحقاق حقوق الضحايا. إن نقد التجربة لا يلغي التضحيات، بل يحميها من الابتذال، ويمنع تحويل الشهادة إلى شيك على بياض يبرّر انتهاك القانون. هنا تكتسب العدالة الانتقالية معناها العملي: اعتراف، اعتذار سياسي، وإصلاح للمؤسسات التي اختُطفت باسم “المقاومة”.

تكمن أهمية هذه المقابلة في أنها تُعيد تعريف الشجاعة. الشجاعة ليست إطلاق النار في شارع الحمراء على متغطرس ومحتل، بل هي القدرة على أن تقول: “أخطأنا” وأن تتراجع حين تصبح الوسيلة عبئًا على الغاية. الشجاعة أن تَفصل بين خصم وعدو، وأن ترفض دمج المقاومة بجهاز مخابرات أو بميليشيات عابرة للحدود. الشجاعة أن تعلن أن الدولة هي وحدها الإطار الشرعي للاحتكار المنظّم للعنف، وأن أي سلاح خارجها ليس مقاومة، لو تلحّف بشعاراتها، بل هو اعتداء على العقد الاجتماعي.

من هنا، تبدو “جمّول” في شهادتها درسًا في حدود القوة. نعم، كانت هناك عمليات أوجعت جيش الاحتلال وأجبرته على الانسحاب من بيروت. لكن القيمة الأهم ليست في “عدّ” العمليات، بل في الخلاصة: لا مقاومة بلا بوصلة أخلاقية، ولا بوصلة من دون دولة. وعندما تصادر أنظمة الوصاية، السورية بالأمس والإيرانية اليوم، قرار السلاح ووجهته، تسقط المقاومة من مقامها الوطني وتصبح وظيفة تخدم مشروع الهيمنة.

على اللبنانيين الراغبين بالخروج من حلقة العنف أن يعيدوا فَهم المصطلحات وامتلاكها؛ “المقاومة” ليست ماركة مسجّلة، ولا هي حقّ حصري لطائفة أو محور. من يقاوم اليوم هو من يدافع عن الدستور، عن استقلال القضاء، عن الاقتصاد المُنتِج، عن حقّ بيروت بالعيش من دون منصّات صواريخ فوق أسطحها. ومن يختطف الدولة ويضع قرار الحرب والسلم في جيبه لا يقاوم؛ إنه يُعطّل إمكانية قيام وطن.

مقابلة عطاالله تضعنا أمام خيارين: إما أن نبقى أسرى خطاب يخلط الشهادة بالابتزاز، أو أن نعيد الاعتبار لقيمة النقد والمحاسبة، كما فعل الرجل ورفاقه عندما اختاروا السلم والعمل السياسي. في زمن صار فيه السلاح “هوية”، علينا أن نستعيد الدلالات الأساس للجملة بمضمونها الحقيقي: المقاومة وسيلة، غايتها قيام دولة حرة عادلة؛ وما عدا ذلك، ليس سوى احتلالٍ من نوعٍ آخر.

اخترنا لك