بقلم مروان الأمين
@m_elamine
عاش الجنوبيون عبر عقود طويلة مرارة الحروب وتبعاتها الثقيلة. نزوح وتشرّد، وبيوت مُهدّمة، ودماء سالت حتى باتت ذاكرتهم محفورة بالسواد، وبات الموت ضيفًا دائمًا في كل بيت، وكأن الجنوب كُتب عليه أن يكون ساحة مفتوحة للأحزان المتكرّرة.
لكن الحرب الأخيرة جاءت أشد قسوة وأعمق جرحًا. في الثالث والعشرين من أيلول 2024 اندلعت الحرب، والحقيقة أنّ اندلاعها لم يكن مفاجئًا. فقد كان “حزب الله” على علم يقين بقرب الكارثة، بعد تحذيرات عربية ودولية، من موفدين أوروبيين وصولًا إلى المبعوث الأميركي آموس هوكستين. ومع ذلك، اختار “الحزب” أن يصمّ أذنيه، تاركًا الجنوب وأهله عالقين على خط النار.
ورغم اليقين بهذه الكارثة، لم يُبدِ “الحزب” أي محاولة لتجنّبها. تمسّك بخيار “وحدة الساحات” الذي ترعاه طهران، وكأن الجنوب مجرد ورقة في دفتر حساباتها. لم يضع خطة إخلاء، ولم يجهّز مراكز إيواء تحفظ حياة الناس وكراماتهم. هكذا وجد الجنوبيون أنفسهم محاصرين في سياراتهم لساعات طويلة، يتجرّعون الذلّ والعذاب على الطرقات، فيما لم يكن في جعبة “الحزب” سوى شعارات جوفاء تتكرر على المنابر وفي الإعلام.
على امتداد السنوات الماضية، أغدق “الحزب” مليارات الدولارات على ترسانته العسكرية. حفر الأنفاق، وشقّ باطن الأرض دهاليز للقتال، وأقام البنية التحتية لمعاركه. لكنه لم يلتفت يومًا إلى البنية التحتية الإنسانية التي تحمي الناس في ساعة الخطر. لم تُبنَ ملاجئ، ولم تُجهّز مراكز إيواء تحفظ كراماتهم وتؤمن لهم الملاذ. الواضح أن الاستثمارات كانت حيث تخدم المشروع الإيراني، أما حياة الناس فكانت خارج الحسابات.
مأساة الجنوب ليست قدرًا عابرًا، بل ثمرة مباشرة لخيارات متعمّدة اتخذها “حزب الله” بتوجيهات إيرانية. لم يكن همّه يومًا حماية الإنسان أو صون كرامته، بل تحويله إلى وقود في معركة لا تخصّه، ومجرد ورقة تفاوضية في صراع النفوذ الإقليمي. الجنوب في نظر طهران ليس أرضًا لبنانية، بل ساحة مفتوحة لحروبه، وأبناؤه ليسوا مواطنين بل هم دروع بشرية تُستهلك في لعبة أكبر منهم.
لهذا، لم يعد الصمت خيارًا مقبولًا. فالمساءلة واجبة، والمحاسبة ضرورة ملحّة. يجب أن يُسأل “الحزب”: لماذا استثمر مليارات الدولارات في الأنفاق والصواريخ، بينما ترك أهله مشرّدين على الطرقات وبلا مراكز إيواء؟ لماذا حوّل الجنوب إلى ساحة للحروب، بدل أن يكون منطقة آمنة لأبنائه؟
أسئلة أخرى من واجب “حزب الله” الإجابة عليها: كيف جرت عملية الپيجر؟ ومن هم المسؤولون عنها؟ وكيف استطاعت إسرائيل اختراقه واغتيال معظم قادته، وصولًا إلى أمينين عامين؟ وما الجدوى من التمسك بالسلاح، بعد أن تبين عجزه أمام إسرائيل؟ وأين أصبح الوعد الذي قطعه السيد نصرالله بإعادة إعمار البيوت كما كانت وأجمل؟
ومنذ الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار، لم يحمل خطاب “حزب الله” للناس سوى مزيد من الاستخفاف بعقولهم واستهانة بآلامهم. بعد أن كان السبب المباشر في تشريدهم وإغراقهم في الذلّ والموت والدمار، لم يجد “الحزب” ما يقدّمه سوى شعارات ممجوجة فارغة. أليس من الحد الأدنى لاحترام عذابات الناس أن يُخاطبهم بالحقيقة؟ أليس من حقهم، لمرّة واحدة على الأقل، أن يحترم عقولهم ويسمعوا منه كلامًا جادًا ومسؤولاً، لا مجرد وعود وهمية ومقاربات منفصمة عن الواقع؟
ما لم تُفتح أبواب الأسئلة التي تقود إلى الحقيقة، سيبقى أبناء الجنوب يدفعون الثمن من دمائهم وكراماتهم، في حروب لا تنتهي وحسابات لا تخصّهم.