ظاهرة #التسول.. من الشوارع إلى دوامة الإجراءات غير المكتملة

بقلم كوثر شيا
@kchaya

أمام إشارة مرور في مدينة مزدحمة، تحولت لحظة انتظار عادية إلى مشهد مُذل: سيدة تتعرض لشتم وإهانات من متسولين. الفيديو الذي وثّق الحادثة وانتشر على نطاق واسع دفع شرطة بلدية الجديدة–البوشرية–السد إلى توقيف عدد كبير منهم. خطوة بدت حازمة، لكنها سرعان ما تحولت إلى حلقة مفرغة؛ إذ وجدت البلدية نفسها وحيدة في مواجهة المشكلة. وبعد تواصلها مع مختلف القطاعات الرسمية من دون أي تجاوب، لم يبقَ أمامها سوى الإفراج عنهم… ليعودوا إلى حيث كانوا.

هذا النموذج يتكرر يومياً، ويطرح سؤالاً جوهرياً: ما مصير الطرقات والمواطن إذا استمرّت الدولة في إدارة الأزمة بدلاً من حلها جذرياً؟

جذور الظاهرة: تعقيد يتجاوز الإجراءات الأمنية

1. شبكات التسول المنظمة

لم يعد التسول اليوم مجرد فعل فردي، بل تحوّل إلى نشاط منظم تديره عصابات تستغل النساء والأطفال وكبار السن. تُوزّع هذه العصابات أفرادها على نقاط محددة، وتجنّي أرباحاً يومية تفوق ما يحققه كثير من الموظفين. الأسوأ أن هذه الشبكات لا تتردد في استخدام العنف لحماية “مصدر رزقها”، كما أظهرت حوادث في دول مجاورة.

2. فشل النهج الأمني المنفرد

البلديات والشرطة تقوم بدور الضبط والتوقيف، لكن دورها ينتهي عند هذا الحد. في غياب التكامل مع وزارات الشؤون الاجتماعية والتنمية، يتحوّل التوقيف إلى دورة متكررة: توقيف–إفراج–عودة إلى الشارع. هذا الخلل يعكس ليس فقط ضعف التنسيق، بل أيضاً غياب الإرادة السياسية لمعالجة الظاهرة كقضية اجتماعية–اقتصادية–أمنية متشابكة.

3. بيئة خصبة تعيد إنتاج الظاهرة

الفقر، البطالة، التفكك الأسري، وغياب شبكات الأمان الاجتماعي تشكل التربة التي ينمو فيها التسول. ومع غياب برامج الدعم الفعّالة، يجد كثير من الأطفال والبالغين أنفسهم أسرى الشارع.

بين المبادرات الفردية والعدالة الاجتماعية

لا يمكن إنكار الجهود التي تبذلها بعض الجمعيات الأهلية. فقد شاركنا سابقاً في مبادرات استوعبت أكثر من 150 تلميذاً، لكن بعد انتهاء ساعات الدروس، عاد هؤلاء الأطفال إلى الشارع. هذه المبادرات تُظهر حسن النية، لكنها تبقى محدودة الأثر أمام اتساع حجم الظاهرة.

المفارقة المؤلمة أن مراكز العبادة تمتلك أموالاً طائلة تُصرف في معظمها على المباني والطقوس، فيما الدولة مفلسة ومنهوبة لا تستطيع النهوض بواجباتها. هنا يبرز السؤال الأخلاقي: أين العدالة الاجتماعية؟ كيف تُترك الطفولة مشرّدة فيما تُكدّس الأموال خلف الجدران؟ أليس من واجب المؤسسات الدينية أن تتصدّى للفقر والتشرد، باعتبارهما امتحاناً حقيقياً للقيم التي تنادي بها؟

الأطفال الضائعون بين الهويات والشارع

في لبنان، القسم الأكبر من الأطفال المتسولين هم من الجنسية السورية. بعضهم مكتومو القيد، وآخرون نزحوا من دون أن يمتلكوا أوراقاً ثبوتية تمكّنهم من التسجيل في المدارس. النتيجة: شارع بدل مقعد دراسي، وتسول بدل دفتر وقلم. هؤلاء الأطفال ليسوا مجرد “متسولين”، بل جيل مهدّد بالضياع، محروم من التعليم والطفولة، ومُعرّض لأن يُستثمر كوقود لعصابات لا تعرف الرحمة.

نحو حلول جذرية

المسؤولية الأولى تقع على الدولة، لكن من دون شراكة حقيقية مع مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية، ستبقى الحلول ناقصة. المطلوب:
•   إصلاح تشريعي يميّز بين المحتاج الحقيقي والمتسول المحترف، ويجرّم استغلال الأطفال والعصابات.
•   مراكز متخصصة لاستقبال المتسولين بعد التوقيف، لتقييم أوضاعهم وتوجيههم إلى برامج إعادة دمج وتعليم وتأهيل مهني.
•   شراكات مع القطاع الخاص لتأمين فرص عمل واقعية للبالغين.
•   توسيع مظلة الضمان الاجتماعي لدعم المحتاجين الحقيقيين.
•   حملات توعية لتشجيع المواطنين على التبرع عبر قنوات آمنة بدلاً من العطاء العشوائي الذي يغذي الظاهرة.

إنسانيتنا على المحك

إن مشهد السيدة المُهانة أمام إشارة المرور ليس مجرد حادثة فردية، بل جرس إنذار لواقع يتفاقم. التسول في شوارع بيروت وغيرها ليس قدراً محتوماً، بل نتيجة لسياسات فاشلة، وغياب عدالة اجتماعية، وتقاعس مؤسسات قادرة.

من السهل أن نشفق ونعطي “فراطة” في لحظة عاطفة، لكن المسؤولية الحقيقية أن نطالب بحلول تحمي كرامة الإنسان. الإنسانية ليست في تشجيع طفل على مدّ يده، بل في ضمان أن تكون يده ممسكة بدفتر مدرسي أو أداة عمل شريف.

إن كرامة المواطن، وكرامة هؤلاء الأطفال، لا يجب أن تبقى رهينة الحلقة المفرغة من التوقيف والإفراج. آن الأوان لإرادة سياسية تضع الإنسان أولاً، وتجعل العدالة الاجتماعية بوصلة فعل لا شعار.

اخترنا لك