بقلم ميراز الجندي – كاتب ومحلل سياسي
في بلدٍ يرفع شعار “الحرية” ويُفاخر بديمقراطيته الهشّة، يقبع آلاف اللبنانيين خلف القضبان في انتظار محاكمات قد لا تأتي. الأرقام صادمة: أكثر من 60 إلى 80% من نزلاء السجون اللبنانية هم موقوفون احتياطيًا، لم تصدر بحقهم أحكام نهائية بعد. بعضهم أنهى مدة محكوميته أو تجاوزها، لكنّه ما زال محتجزًا لعدم القدرة على دفع كفالة زهيدة، بينما يخرج أصحاب النفوذ والمال من السجون بكفالات بمليارات.
هذه المفارقة ليست مجرد خلل إداري، بل انعكاس لنظام عدالة مختلّ، يُكافئ القوي ويطحن الضعيف، فيكشف انهيار فكرة الدولة التي يُفترض أن تحمي مواطنيها بالعدل والمساواة.
حين يصبح الفقر تهمة
يتحول العجز عن دفع كفالة أو رسوم بسيطة إلى حكمٍ بالسجن غير المحدود. آلاف المحتجزين يجدون أنفسهم بين جدران مكتظة، بلا جرائم جسيمة، فقط لأنهم لا يملكون ما يدفعون.
في المقابل، “مهندسو الفساد” وناهبو المال العام يحظون بإخلاءات سبيل مشروطة بكفالات ضخمة، تُسدد بأموال مشبوهة، بلا مساءلة فعلية.
هذه الازدواجية في المعايير تُسقط مبدأ العدالة العادلة. في لبنان اليوم، القانون ليس درعًا للمظلوم، بل أداة تُدار بالمال والسياسة.
المؤشر الحقوقي والقانوني
تشير الدراسات الحقوقية إلى أن نحو 62.9% من السجناء هم موقوفون قبل المحاكمة. تقارير محلية ودولية، بينها تقرير وزارة الخارجية الأميركية لعام 2023، وصفت “التوقيف المسبق المديد” كواحدة من أبرز تحديات العدالة اللبنانية، في انتهاك صريح للنصوص القانونية التي تحدّد سقوفًا زمنية للتوقيف.
لكن هذه النصوص تبقى حبراً على ورق. القضاة، تحت ضغط البطء الإداري أو التأثير السياسي، يتغاضون عن مراجعة ملفات الموقوفين دوريًا، فيما تتحول الكفالة من ضمانة قانونية إلى حصانة للنافذين.
التبعات الإنسانية والمجتمعية
وراء الأرقام وجوه وقصص. المحتجزون بلا محاكمات يواجهون ظروفًا لاإنسانية: زنازين مكتظة، نقص في المرافق الصحية، تعذيب أو معاملة سيئة، وانعدام أي برامج للتأهيل أو التعليم.
هذه التجربة القاسية لا تقتصر على النزلاء، بل تمتد إلى أسرهم ومجتمعاتهم، فتُضاعف الأعباء الاقتصادية والاجتماعية، وتزرع الغضب وانعدام الثقة في مؤسسات الدولة.
حين يرى المواطن أن من يملك المال ينجو، بينما يُدفن الفقير في ظلمة السجن، فإن صورة الدولة تتحول إلى “دويلة محمية للأقوياء”، لا دولة قانون ومؤسسات.
مطالب الإصلاح: خريطة طريق
أمام هذا الواقع، يصبح الإصلاح ضرورة وجودية، لا مطلبًا حقوقيًا فقط. الخطوات الأساسية واضحة:
الإفراج الفوري عن الموقوفين الذين أنهوا محكومياتهم أو لم يُحاكموا خلال المهل القانونية، عبر سندات إقامة أو كفالات رمزية.
تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية لتقييد التوقيف الاحتياطي بفترات صارمة، وتفعيل مراجعة قضائية دورية.
اعتماد بدائل للسجن في القضايا البسيطة، كالحبس المنزلي أو الخدمة المجتمعية.
فتح تحقيق شفاف في مصادر الكفالات الضخمة التي تُستخدم كغطاء لتبييض الأموال.
نقل إدارة السجون إلى وزارة العدل بدل السلطة الأمنية، بما يضمن استقلالية القضاء.
تعزيز الجهاز القضائي عبر زيادة عدد القضاة والمحاكم، وتحسين البنية التحتية للسجون.
إشراك المنظمات الحقوقية الدولية في المراقبة وضمان احترام المعايير الإنسانية.
أزمة عدالة أم أزمة دولة؟
العدالة ليست رفاهية. هي الركيزة التي يقوم عليها أي عقد اجتماعي. استمرار التوقيفات العشوائية والانتقائية يعني أن لبنان يعيش خارج منطق الدولة. فدولة لا تحمي الضعيف ولا تحاسب القوي، ليست دولة، بل منظومة فساد مكرّسة.
نحن لا نطالب بعفوٍ ولا بصدقة، بل بإنصاف. العدالة هي الشرط الأول لاستعادة كرامة الناس وثقتهم بالمؤسسات.
فإما أن يُطبق القانون على الجميع، أو أن يُترك الوطن نهبًا للفوضى والغضب واللاعدالة.