بقلم عقل العويط
وأعترفُ لكِ بأنّ غربتي شخصيّةٌ وشعريّة، وهي هذه الغربةُ بالذات، وأعمقُ من كلِّ هوّيّةٍ، وقتيلةٌ، وليست بقاتلة، وها أنا الغريبُ أطالب بأنْ أكونَ غريبًا، ماقتًا أنْ أغدو مواطنًا صنوَ شاهدِ زورٍ، وزاهيًا بأنّي لا أملك سوى أنينِ العقلِ، وهو العقلُ رائيًا ويرى، مستسيغًا أنْ أوغلَ في غربتَيَّ، غربةِ الغريبِ الذي أنا، وغربةِ الغريبةِ وهي إيّايَ، ومهاجرَين في قلبَينا، وخارجَ الجغرافيا وخارجَ التاريخ، وساهرَين، وفي مكانٍ تخييليٍّ، وزمانٍ تخييليّ، ومزدريَين كلَّ أمّةٍ وهوّيّةٍ وجماعةٍ وصفةٍ ودينونةٍ، لأنّ ازدراءً كهذا يقابل “انتماءً” لا شريك له، حيث أنا العقلُ – الرأسُ أو الشِّعرُ جارحًا، ويعزّ نظيرُه هنا، وها هناك، وحقًّا، ولا سيّما الآن، في أممِ الهوّيّاتِ القاتلة، والجماعاتِ القاتلة، والبلدانِ القاتلة، والصفاتِ القاتلة، والدينوناتِ القاتلة، وغربةٌ هي فائقُ بطولةٍ، وتجترح وجودًا ينجو من ملهاةِ الوجودِ الشرقيِّ المستنقَع، وتصنع الفارقَ الملهمَ في شرقٍ عدميٍّ، قوامُه اليبابُ والسديمُ المريضُ، وحيث ينعدم كلُّ فارقٍ خلّاقٍ، وإنّما أنا الغريبُ وقد شغفتُ بما يُحكى عن غريبةٍ وغريبٍ، ولا سيّما عندما تهجع الغريبة هذه، في شبهِ نجوى، وتحتها ما شُبِّه أنّه نهرٌ، وفوقها ما شُبِّه أنّها سماءٌ، وليستْ بسماءٍ، وأنا ماثلٌ في فراغٍ مدقعٍ، وأشغفُ بما يسيل منّي، وقد استشعرتُ عقلي دامعًا، وينسال وينهمر، وأدركُ ما لا يُدرَك كنهُهُ، وأنقاد، وطوعًا، ولا إرادةَ في شيءٍ، ولا رغبةَ في أيِّ احتمالٍ آخر، سوى هذا الذي يبكي منّي، ويُشعِرنا نحن الغريبَين بجوعِ الحسّ، وهو الموتُ المحيي ونشوتُهُ المتضرّعة، وبكوننا فريستَين، ونذوب، ومنصاعَين، وبالغرائز الحميمة، وبالمسامّ، وبالجروح المدفونة، وبالهلاك، وهذا كلّ ما يبوح آنئذٍ، وينضح، ويلحّ، ويكتسب فلسفةَ الوجودِ المضادّ، وبهذه الفلسفة، النهرُ يهتدي، والسماء، ويهذي بها جسدانا، ولا حولَ ولا قوّةَ، وتستولي، وشهوةُ النومِ أقوى وأفدحُ من كلِّ مرامٍ، والاختصارُ كثافةٌ، واللّازمنُ هو الزمنُ، واللّاوقتُ هو الوقتُ كلُّهُ، وغابةٌ هو الليلكُ، والغيبوبةُ حنينُها، وما كنتُ أنا الغريب أغنّي، وإنّما أرقُّ وأتلاشى، وتنوب عنّي حالٌ لا هي القمرُ ولا الشمسُ هي، ووقتٌ لا النعاسُ يكفيه، ولا الصمتُ، ولا ذهابُ الروح، وما أَشبَهَهُ هتافًا منطوقًا بعينَي مُغمِضٍ أو منخطفٍ، وبلغةٍ هي لشجرِ الحورِ، وكلاهما ممهورٌ بهندسةِ الفرارِ والهرب، وبإيقاعِ الماءِ بعد جمرٍ والتماعِ ضوء، وما كانت الغريبةُ براكعةٍ، إنّما على انحناءٍ، ومتّكئةً على زهرة الجسد، وتكتب الحكايةَ، وبلا صوتٍ، وتسقي الموتَ لكي ينمو، وليس من لغةٍ، ليس من لغةٍ، لأنّ الغربةَ لا تكون بالكلمات ولا باللغات، ولا بالمكان، ولا بالزمان، بل هي صنوُ عدمٍ هاربٍ من كونه عدمًا، وصنوُ غريبَين، غريبٍ وغريبة، هما وطنُ الهوّيّاتِ المضادّةِ لكلِّ هوّيّةٍ قاتلةٍ وأمّة.
والغربةُ هذه شعريّةٌ وتخييليّةٌ، وهي محضُ ازدراءٍ مترفّع، وليست هربًا، ولا فرارًا، ولا غسلَ يدٍ، ولا استسلامًا، ولا خنوعًا، إنّما درءًا للقطيعيّة، ولشهاداتِ الزور، وهي إقامةٌ، وحرّةٌ، لغريبٍ، وغريبةٍ، وخصوصًا هنا، والآن، وفي كلِّ تخييلٍ، وتمرّدًا، وإمعانًا، وحفرًا. ولا انتهاء.
وأعترفُ لكِ بأنّ غربتي هي الانتماءُ والإقامةُ الحرّةُ مطلقًا، في العقل، في الرأس، في الشِّعر، وحيث لا مكانَ لهوّيّةٍ قاتلة، وأمّةٍ قاتلة، ولا مكانةَ لشرقٍ قاتلٍ ومهيض، صار (هذا الشرق) قدوةً ملعونةً لجنوبِ العالم، وللشمال، وكلاهما قاتلٌ، وهلمّ.
أنا غريبُ نفسي، أيّتها الغريبة، فكيف لا أكون غريبَ هؤلاء الناس، وغريبَ البلاد!