من حافة الموت إلى ميلاد جديد للروح

بقلم خلود وتار قاسم

اليوم عيد… ليس لأنه تاريخ ميلادي فقط، بل لأنه وقفة مع النفس، مراجعة لمسار العمر، وإعلان عن بداية جديدة. فالعيد السنوي لميلادنا ليس مجرد عدد نضيفه إلى سنوات حياتنا، بل هو معنى نعيد اكتشافه، وسؤال نطرحه: ماذا أنجزنا؟ ولأي غاية نحن باقون؟

في كل مرة يقترب فيها الإنسان من حافة النهاية، تُنتزع عنه الأوهام. هناك، على تخوم الموت، يتعرّى المعنى الحقيقي للوجود: لسنا هنا عبثًا، ولسنا خالدين، وكل ما اعتقدناه ثابتًا يمكن أن يتبخر في لحظة واحدة بفعل قدرٍ أو عدوانٍ أو فسادٍ مستشري.

في بلادنا، لم يعد الموت حدثًا استثنائيًا؛ صار ظلًا يحوم فوق الرؤوس، يقتحم البيوت، ويذكّرنا كل يوم أن الحياة قد تُسلب قبل أن نكمل أحلامنا. الأخبار لم تعد مجرّد أخبار؛ صارت طعنات متلاحقة في قلب الأمل. فساد بلا حدود، ظلم بلا حساب، وطن تحوّل إلى مرآة لعجزنا الجماعي.

وسط هذا الركام، يتساءل الإنسان: ما الغاية من وجودي؟ هل خُلقت لأكون مجرّد شاهد على انحدارٍ لا يتوقف؟ أم أن عليّ أن أبحث عن “تكليفي” الحقيقي – ذلك الدور الذي من أجله أنا هنا؟

بعد أن وقفتُ على حافة الموت ونجوت، فهمت أن حياتي لم تُمدَّد عبثًا، بل لحكمة ورسالة. لم يعد العيد بالنسبة إليّ مناسبة عابرة للاحتفال، بل أصبح تجديدًا للعهد مع نفسي ومع الله أن أعيش بوعي لتكليفي.

تكليفي الذي اتضح لي بجلاء ليس شعارات ولا سباقًا نحو الألقاب. التكليف هو وعي: أن تعرف أين تضع طاقتك، من تخدم، وما الذي يبقى منك حين تتساقط كل الأقنعة.

هو خدمة الوطن رغم الإحباطات والأزمات، لأنه بيتنا الكبير ويحتاج إلى من يتمسك به وسط الخراب.

وهو أيضًا خدمة أمي، لأنها البوصلة التي تردّني دائمًا إلى إنسانيتي، ورضاها هو النور الذي يضيء طريقي، والرصيد الأصدق الذي يبقى حين ينهار كل شيء.

رضا الوالدين ليس واجبًا فقط، بل هو الباب الأول لفهم معنى الرسالة التي كُلّفنا بها.

فالإنسان بلا وعي لتكليفه يشبه سفينة بلا بوصلة. قد ينجو من الموت الجسدي لكنه يظل تائهًا في موتٍ معنوي طويل.

أما من يعي تكليفه، فيتحوّل وجوده إلى فعل حيّ: حب أكبر، خدمة أصدق، أثر يبقى حتى لو سقطت الأوطان تحت الركام.

اليوم، وأنا أتنفس هذه الحياة الثانية التي مُنحت لي، أرى أن المسألة ليست كم نعيش، بل كيف نعيش.

وبين تهديد الفناء وفساد الواقع، هناك دائمًا مساحة صغيرة لنورٍ شخصي: أن نعرف رسالتنا ونمشي فيها بوعي، لنصنع معنى في عالم يبتلع المعاني.

ولهذا فإن يوم ميلادي اليوم ليس مجرد شمعة تُطفأ، بل شعلة تُشعل.

ليس سنوات تمضي، بل حياة تُمنح من جديد كي نحياها بعمق أكبر، حب أكبر، ورسالة أوضح.

اليوم هو اليوم الأول من حياتي الباقية… حياة سأجعلها ذات قيمة بخدمة الوطن وبخدمة أمي، لأكون على قدر التكليف الذي خُلقت من أجله.

اخترنا لك