الكل انتصر… إلا غزة : بين السلام المفروض والمقاومة المستعارة

بقلم ميراز الجندي – كاتب ومحلل سياسي

في ساحات الصراع العربي، يُعلن الجميع الانتصارات، بينما يبقى أهل غزة وحدهم من يدفع الثمن.

اليوم، بعد سنوات من الدم والدمار، يبدأ مشهد جديد يتشكّل: مشهد يُظهر أن السلام — ولو جاء تحت ضغط — قد يصبح أقوى ردّ على الاحتلال والتطرّف، أكثر من أي عمل عسكري. لكن الطريق إلى هذا السلام محفوف بالتناقضات والمخاطر، لا سيّما حين تُهيمن مشاريع إقليمية غير وطنية على قرار المقاومة والقضية.

السلام… الخيار الجريء لا الضعيف

الاتفاق الفلسطيني على مبادرات تتعارض مع بعض أجندات الفصائل يُعدّ تغييرًا استراتيجيًا: ليس تنازلاً، بل بحثًا عن بديل، عن فضاء سياسي جديد يُعيد أنفاس الفلسطينيين إلى خريطتهم.

إسرائيل تفاجأت بأن السلام نفسه صار تهديدًا لنظامها القومي، لأنه يكشف هشاشة مشروع التطرّف، ويحرج من بنى سطوتها على الصراع، ويُستبدَل خط مواجهة إلى طاولة تفاوض.

حماس بين الولاء والواقعية

ربطت حماس نفسها لسنوات بمشروع إيراني يُصدر مقاومة مرتبطة بالولاية، أكثر من ارتباطها بالشعب الفلسطيني. هذا الربط أنتج قمعًا داخليًا، وتدهورًا أمنيًا، وانكفاءً على غزة كمنكفئ.

اليوم، ومع رفض المتغيرات، تُظهر قيادة حماس بوادر تراجع عن هذا التبعية، بقبول مبادرات سياسية، وإن كانت بشروط. هذا التحوّل — ولو متأخرًا — يُمثّل فرصة لإعادة البناء، لاستعادة الإجماع الفلسطيني بدلاً من الانقسام.

العرب يعودون… لكن بدور الدولة، لا الفصيل

لم يعد التحرك العربي لمصلحة فلسطين مجرّد كلام على الشاشات: بل أصبح احترافًا دبلوماسيًا مُتقنًا. السعودية ومصر تتصدّران المسار، وتعيدان القضية إلى موقعها المحوري في السياسات الإقليمية.

هذا الدور الجديد ليس “معادلة عودة” فقط، بل إنه فرض التوازن: العودة إلى فلسطين ستكون عبر دعم الدول لا الفصائل، عبر الاعتراف ليس بالرموز بل بالحقوق.

السلاح، الدولة، والحل… مفترق طرق

لبنان اليوم مثال حيّ على التناقض: قرار حكومي لمناقشة نزع سلاح الميليشيات واجه رفضًا مفتوحًا من الحزب المسلّح، الذي اعتبره “خطيئة تتماهى مع استراتيجية إسرائيل”.

السؤال الحقيقي ليس “متى يُسالمون” بل “متى تُعيد الدولة هيبتها؟”

تنفيذ القرار 1701+ ليس خيارًا بل ضرورة: أن يسود القانون في الجنوب وكل لبنان ، وأن يحتكر السلاح شرعية الدولة، لا وكلاء الخارج.

لماذا خسر الفلسطينيون أحيانًا في “انتصاراتهم”؟

التناقض بين الشعار والممارسة: حين تعلن “المُقاومة” في العلن، وتُمارس التبعية في الخفاء، يُهزم المشروع من داخله.

يستمرون في انتظار معجزات، بينما المدنيون يدفعون الفاتورة: تدمير المدن، انقطاع الخدمات، موت الأطفال الجياع.

حين يتحوّل ملف القضية إلى معركة شرعية قانونية، لا إلى سباق صواريخ، فإن من كان يُروّج للفوضى يُهزم أمام لغة الحق.

خارطة الحلّ الاستراتيجي

التوافق الفلسطيني أولًا: لا حل فعلي من دون إجماع سياسي منضبط بالحقوق والكرامة، لا بالولاءات الخارجية.

إعادة بناء مؤسسات الدولة: حكومة فلسطينية مركزية تمثّل الضفة وغزة، تُدار بمعايير الشفافية، لا بموازين القوة.

الطريق القانوني والدولي: الاحتكام إلى القانون الدولي، إلى قرارات الأمم المتحدة، إلى محاكم العدالة، لا الاستمرار في لعبة الحرب الأبدية.

سلام تدريجي وفعل إنساني: خطوات متدرجة تُضمِّن إنهاء المعاناة، إعادة الإعمار، وإطلاق الحريات، قبل الوصول إلى التسوية الكاملة.

ردّ عربي مؤثر: ليس بالمبادرات العاطفية، بل بالضغط السياسي، دعم المشاريع، وطرح الدولة الفلسطينية كعنوان لا كأحد الخيارات.

اليوم، فلسطين تنتصر حين تقول “نعم للسلام المنصف”، لا حين تُكرر “نعم للمقاومة” كفرية في كل مناسبة.

نعم، ما زالت حياة الفلسطيني أغلى من كل مقولة، ونعم، المشهد العالمي يتغيّر، والفلسطينيون يستطيعون استعادة قرارهم، إن قرّروا أنه لا بديل من الدولة الحقيقية… دولة الحقوق، لا الشعارات.

هذه ليست دعوة للتخلي عن المقاومة، بل دعوة لترشيدها ضمن مشروع وطني متوازن، لا مشروع أدوات.

إن انتصر الفلسطيني اليوم، فليس بالصواريخ وحدها، بل بالسلام الذي يكسر القيد، ويعيد الكرامة.

ولمن فكر يوماً أن السلام هزيمة، فليعلم أن من يرفضه يرفض الحياة نفسها.

اخترنا لك