التعذيب في لبنان : عقلية بوليسية ترفض الرحيل… ودوامة إفلاتٍ مزمنة من العقاب

قاصرٌ يُفارق الحياة وبلدٌ يعتاد الخبر السيّئ

بقلم د. عبد العزيز طارقجي

قبل أيام، توفيَ القاصر السوري مهند محمد الأحمد (14 عامًا) بعد ثلاثة أشهر من توقيفه في سجن الأحداث في الوروار.

تضاربت الروايات الرسمية والأهلية حول السبب، ولم تُصدر قوى الأمن الداخلي رواية شفافة مقنعة حتى لحظة كتابة هذه السطور، فيما عزّزت التقارير الحقوقية والطبّية الأولية الشكوك العامة وأشعلت غضبًا مشروعًا.

هذه الحادثة ليست معزولة، بل حلقة جديدة في نمطٍ ممتدّ من الوفيات والانتهاكات داخل أماكن الاحتجاز، يقابله تعطيلٌ ممنهج للمحاسبة.

سجلّ من الوقائع بلا عدالة: تسلسل زمني مختصر

– مايو/أيار 2019 – حسن الديكه: توفي الموقوف اللبناني حسن الديكه بعد أن تقدّم بشكاوى موثّقة عن تعرّضه للتعذيب. دعت المفوّضة السامية لحقوق الإنسان آنذاك إلى تحقيق فعلي ومحاسبة المسؤولين، لكن السلطات القضائية أخفقت في تطبيق قانون مناهضة التعذيب (2017) وسمحت لذات الجهة الأمنية المتهمَة أن تُحقّق في نفسها، في خرقٍ فاضح لمقتضيات النزاهة. النتيجة: لا محاسبة فعّالة حتى اليوم.

– آب/أغسطس 2022 – بشّار عبد السعود: اللاجئ السوري بشّار عبد السعود قضى تحت التعذيب أثناء احتجازه لدى أمن الدولة. ورغم توجيه اتهامات لخمسة عناصر في ديسمبر/كانون الأول 2022، خلُصت تقارير حقوقية لاحقًا إلى أنّ المحكمة العسكرية فوّتت فرصةً مفصلية للعدالة، في دلالةٍ إضافية على أن المسار القضائي العسكري غير صالح لقضايا التعذيب.

– آب/أغسطس 2025 – أسامة الجاعور: سجّلت منظمات حقوقية وفاة السوري أسامة الجاعور في سجن رومية وسط مزاعم تعذيبٍ وإهمالٍ طبّي. حتى الآن، لا مخرجات قضائية شفافة تُنهي الجدل وتُحدِّد المسؤوليات.

– تشرين الأول/أكتوبر 2025 – مهند محمد الأحمد (14 عامًا): وفاة قاصر بعد احتجازٍ مطوّل في سجن أحداث؛ روايات متضاربة وغياب بيانٍ وافٍ من قوى الأمن، ما يُعيد طرح السؤال نفسه: لماذا تتكرّر الوفيات داخل أماكن الاحتجاز دون تحقيقاتٍ سريعة، مستقلة، وفعّالة؟.

– إضاءة مرتبطة – الفنان زياد عيتاني (2017): قضيته كشفت نمط الإخفاء القسري والتعذيب داخل أمن الدولة، ثم انقلاب المشهد ببراءته لاحقًا، ومحاولات لاحقة لإسكاته عبر دعاوى تشهير بدل محاسبة المعذِّبين. هذه القضية مؤشرٌ رمزيّ على آلية حماية الجلاد بدل الضحية.

التزامات لبنان القانونية: نصوص واضحة… وتطبيق معطَّل

– اتفاقية مناهضة التعذيب (CAT): انضمّ لبنان في 5 تشرين الأول/أكتوبر 2000، ما يُلزمه بمنع التعذيب حظرًا مطلقًا، والتحقيق الفوري والنزيه في كل ادعاء، وملاحقة الجناة، وضمان جبر الضرر للضحايا، وعدم الاعتداد بأي اعترافٍ مُنتزعٍ تحت التعذيب.

– البروتوكول الاختياري (OPCAT): صادق لبنان في 22 كانون الأول/ديسمبر 2008، وعيّن اللجنة الوطنية للوقاية من التعذيب كآلية وطنية وقائية ضمن الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان بموجب القانون 62/2016. لكن تقارير رسمية وحقوقية لاحقة وثّقت تعثّر التفعيل الكامل وقدرة الآلية على الزيارات المنتظمة لأماكن الاحتجاز.

– قانون مناهضة التعذيب رقم 65/2017: خطوة مهمة على الورق، لكنها تشوبها ثغراتٌ جوهرية: تقادم من 3 إلى 10 سنوات يبدأ بعد الإفراج عن الضحية، وعقوبات لا تعكس جسامة الجريمة، وإبهامٌ بشأن عدم اختصاص القضاء العسكري في قضايا التعذيب. منظمات دولية طالبت بتعديل القانون لإزالة التقادم وتحصين الاختصاص المدنيّ، واعتماد بروتوكول إسطنبول كمرجعية وطنية للتوثيق الطبيّ والقضائي.

من يتحمّل المسؤولية؟

1) المؤسسة الأمنية: استمرار العقلية البوليسية في غرف التحقيق وأقبية الاحتجاز، واستسهال الضرب والتهديد والإهانة كأدوات “روتينية” لانتزاع الاعترافات، وهو ما توثّقه تقارير سنوية ومنظمات محلية. واجب القيادة ليس الإنكار، بل وقف الممارسة فورًا، وإحالة كل متّهم إلى القضاء المدني، وتعليق عمله لحين صدور الأحكام.

2) السلطة القضائية: إحالة قضايا تعذيب إلى القضاء العسكري تُقوِّض العدالة بطبيعتها، وتُنتج مظاهر إفلاتٍ من العقاب. السوابق (بشّار عبد السعود مثلًا) تبرهن أنّ المحكمة العسكرية ليست الإطار المؤهّل لهكذا جرائم، وأن الإحالة إلى القضاء العدلي المدني واجبة قانونًا وأخلاقًا.

3) السلطة التنفيذية والبرلمان: الإبقاء على تقادمٍ في جريمةٍ دولية الطابع كالتعذيب هو انتهاكٌ لجوهر الالتزام الدولي، ويحوّل القانون إلى شبكة أمانٍ للجلادين. المطلوب تشريعٌ مُعجَّل يزيل التقادم ويُغلّظ العقوبات ويُحدِّد عدم اختصاص القضاء العسكري في قضايا التعذيب.

ماذا يجب أن يحدث الآن؟ خريطة إجراءات ملزِمة

– إحالة فورية لكل قضايا الوفاة أو الإصابة داخل الاحتجاز إلى قاضي تحقيق مدني مستقل، مع تمكين أهالي الضحايا ومحاميهم من الاطلاع على الملفّات الطبية الشرعية كاملة.

– تعليق وعزلٌ مؤقّت لكل عنصرٍ أمني مُشتبهٍ به لحين البتّ القضائي، وحظر أيّ تواصل لهم مع الشهود أو الضحايا.

– تبنّي بروتوكول إسطنبول رسميًا كمعيار وطني للتوثيق والمعاينة الطبيّة الشرعية، وتدريب القضاة والأطباء الشرعيين عليه.

– تفعيل كامل لصلاحيات اللجنة الوطنية للوقاية من التعذيب وضمان ميزانيتها واستقلالها، وتمكينها من زيارات مفاجئة وغير معلنة لجميع أماكن الاحتجاز (المدنية والعسكرية) ونشر تقاريرها دوريًا.

– إصلاح تشريعي عاجل: حذف التقادم من قانون 65/2017، تغليظ العقوبات بما يتناسب مع جسامة الجريمة، وتكريس اختصاص القضاء العدلي حصراً، وضمان بطلان أي اعتراف انتُزع تحت التعذيب ووجوب استبعاده حتمًا.

– شفافية عامة: نشر بيانات تفصيلية وفورية حول كل وفاة أو ادعاء تعذيب؛ السرية لا تحمي التحقيق، بل تحمي المعذِّب.

في الختام يا حكومة لبنان: لا إصلاح بلا عدالة

مقتل قاصرٍ في سجن أحداث، ولاجئٍ تحت التحقيق، وموقوفٍ يُسلَّم إلى الطبّ الشرعي جثةً تحمل آثار الألم… هذا ليس قضاءً ولا أمنًا، بل تقويضٌ للدولة نفسها.

الالتزامات الدولية للبنان واضحة، والقانون الوطني – رغم عِلاته – يمنح الأدوات الأولى للمحاسبة.

المطلوب قرارٌ سياسيّ وقضائيّ صارم: نقل جميع قضايا التعذيب والوفيات في الاحتجاز إلى القضاء العدلي، وتعديل القانون لسدّ الثغرات، وتفعيل الآليات الوقائية، ومحاسبة كل من أمرَ أو نفّذ أو تستّر. من دون ذلك، سيبقى التعذيب سياسةً غير معلَنة، وستبقى العدالة مجرّد شعار.


* صحافي استقصائي وباحث في الانتهاكات الدولية لحقوق الانسان

اخترنا لك