بقلم ماريا معلوف
تدخل سوريا مرحلة سياسية دقيقة وحساسة، بعد سنوات من الحرب والتفكك وتوزع النفوذ بين قوى إقليمية ودولية. اليوم، ومع محاولات حكومة أحمد الشرع تثبيت الاستقرار الداخلي وإعادة بناء مؤسسات الدولة، تبدو البلاد وكأنها تختبر من جديد معنى السيادة والهوية الوطنية في ظل معادلة معقدة: دعم عربي صادق، وضغوط أجنبية متواصلة.
تعدد النفوذ وتآكل السيادة
ما زالت الجغرافيا السورية مرآةً لتضارب المصالح. فروسيا تتمسك بوجودها العسكري في الساحل والوسط تحت عنوان “حماية الأقليات”، فيما تحاول إيران الإبقاء على نفوذها في الجنوب والبادية عبر شبكات اقتصادية وعقائدية.
إسرائيل تراقب وتضرب متى شعرت بأن موازين القوى قد تميل ضدها، بينما تحاول تركيا فرض واقع أمني في الشمال بذريعة حماية حدودها من المجموعات الكردية.
وسط كل ذلك، تعمل واشنطن على ضبط الإيقاع الميداني والسياسي، فيما تنسّق مع السعودية لإعادة سوريا إلى محيطها العربي بشروط جديدة تقوم على الشرعية الوطنية لا الولاءات الخارجية.
رهان حكومة الشرع
منذ تسلمها السلطة، تعمل حكومة الرئيس أحمد الشرع على إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، تفكيك الأجهزة الأمنية القديمة، وتوحيد القوات المسلحة ضمن جيش وطني محترف يخضع للقيادة المدنية.
الدعم العربي كان حاسمًا في هذه العملية، إذ وفرت الرياض وأبوظبي والقاهرة غطاءً سياسيًا وتمويلاً لإعادة الإعمار، إلى جانب دعمٍ لجهود المصالحة الداخلية ومسار العدالة الانتقالية.
إلا أن النجاح لا يزال مرهونًا بقدرة الحكومة على تحقيق توازن دقيق بين الإصلاح الحقيقي وعدم استفزاز القوى التي ما زالت تملك نفوذًا على الأرض.
وحدة البلاد على المحك
رغم الهدوء النسبي، ما زالت وحدة سوريا مهددة إن لم تُترجم الشعارات إلى مؤسسات قوية وإجماع سياسي واسع.
فالمخاطر لا تقتصر على الأطراف المسلحة أو القوى الخارجية، بل تشمل أيضًا الانقسامات المجتمعية التي عمّقتها الحرب.
إسرائيل لا تريد سوريا قوية، وإيران لا تريدها مستقلة، بينما يريد الشعب السوري دولة تحفظ كرامته وتمنحه حق المشاركة في القرار لا مجرد البقاء على قيد الحياة.
التحالف الأميركي–السعودي: رؤية جديدة للملف السوري
التحالف القائم بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية السعودية أعاد ترتيب الأولويات في التعاطي مع دمشق.
فبعد سنوات من المقاربات العسكرية والضغط الاقتصادي، تتجه واشنطن والرياض اليوم إلى مقاربة واقعية تعترف بضرورة وجود دولة سورية موحدة ومستقرة، شرط أن تكون خالية من النفوذ الإيراني وأن تلتزم بمسار إصلاحي داخلي حقيقي.
الاتفاقات الأخيرة التي رعتها لجنة جنيف الموسعة بين الجانبين الأميركي والعربي تمثل إطارًا عمليًا لهذه الرؤية: دعم الحكومة المركزية مقابل التزامها بإعادة بناء مؤسسات شفافة وفتح المجال للمشاركة السياسية الواسعة.
كما أشار تقرير حديث لمركز واشنطن للدراسات إلى أن “تحصين الكيان السوري هو السبيل الوحيد لمنع عودة الإرهاب والانفجار الإقليمي”.
نحو سوريا جديدة
سوريا اليوم ليست كما كانت قبل عقد. إنها دولة تبحث عن خلاصها الذاتي بين ركام الحروب والوصايات.
التحدي لم يعد فقط في استعادة السيادة، بل في بناء دولة حديثة قادرة على جمع مكوناتها حول مشروع وطني جامع.
وإذا ما استمرت الإرادة العربية والدعم الأميركي على هذا المسار، فقد يكون السوريون أمام فرصة نادرة لطيّ صفحة الحرب وفتح صفحة الدولة التي طال انتظارها.