بقلم مروان الأمين
@m_elamine
شهد لبنان على مدى تاريخه الحديث تنوعًا واسعًا في القوى السياسية والميليشيات التي أسهمت، بدرجات متفاوتة، في رسم معالم الحياة السياسية فيه، سواء عبر العمل المنفرد أو من خلال جملة من التحالفات.
فبينما تبنّت بعض هذه القوى سياساتٍ وخياراتٍ جعلت من مصلحة لبنان أولويةً فوق أي اعتبار آخر، انطلقت قوى أخرى من خلفيات أيديولوجية ومشاريع سياسية عابرة للحدود، وضعت هويتها الفكرية أو العقائدية فوق المصلحة الوطنية.
ورغم التناقضات الحادة والصراعات العميقة والحروب التي طبعت العلاقة بين القوى السياسية على اختلاف توجهاتها – من اليسارية والمسيحية إلى القومية العربية – فإن كلًّا منها أفرزت نخبة من المفكرين والأدباء والشعراء والفنانين الذين أغنوا المشهد الثقافي والفكري في البلد.
هكذا، لم يقتصر الصراع في لبنان على ميادين السياسة والسلاح فحسب، بل امتد ليصبح معركة فكرية وثقافية موازية، خاضتها تلك القوى عبر وثيقة سياسية، أو قصيدةٍ شعرية، أو روايةٍ أدبية، أو مؤلفٍ في الفكر السياسي، ليظل لبنان ساحةً تتصارع فيها الأفكار إلى جانب البنادق.
في المقابل، تبدو تجربة “حزب الله”، الممتدة على مدى أربعة عقود، مختلفة تمامًا عن تجارب القوى السياسية الأخرى. فخلال هذه المسيرة الطويلة، لم يُنتج “الحزب” أديبًا أو شاعرًا بارزًا، ولم تفرز تجربته وثائق سياسية أو رواية أو عملًا مسرحيًا يُثير نقاشًا فكريًا أو ثقافيًا في البلد، سواء بين المؤيدين أو المعارضين.
قد يُعزى هذا الغياب إلى طبيعة الدور الذي أنشئ “الحزب” من أجله، إذ إن السلاح يشكّل جوهر وجوده وعماد حضوره السياسي والعقائدي. فوظيفته لا تأخذ بالاعتبار التركيبة اللبنانية، ولا تنطلق من نهائية الإنتماء للبنان، كي تُحفزه على ترك إرث ثقافي وفكري، بل من ارتباط عضوي بمشروعٍ إقليمي يتجاوز حدود الدولة، ويخدم نفوذ النظام الإيراني ويعمل على إلغاء التنوع داخل الطائفة الشيعية، وربطها بهذا المشروع العابر للحدود.
ضمن هذه المعادلة، يغيب الحافز للإنتاج الثقافي والفكري الذي يقوم على النقاش والتعدّد، لتحلّ مكانه عصبية مذهبية مدعومة بفائض القوّة والسلاح. وهكذا يصبح معيار القوّة هو الغلبة لا الإبداع، وتتحوّل اللغة من وسيلة للتعبير إلى أداة للولاء، فيما يُقصى العقل والحوار لحساب الانفعال والتعبئة، فتسود ثقافة تُمجّد القوّة وتُهمّش الفكر.
قد تكون الشعارات التي يرفعها أنصار “حزب الله”، مثل “شيعة شيعة شيعة” و”سِكي لَح لَح”، أبلغ تعبير عن حالة العقم الفكري والثقافي. فهذه الشعارات تختصر مسار أربعة عقود من العمل التعبوي القائم على الانفعال والغريزة والاستقواء، وتغييب كامل للفكر والإبداع.
إنها شعارات لا تمتّ بصلة إلى الهوية اللبنانية الغنية بتنوعها وانفتاحها، بل تتناقض تمامًا مع الإرث الثقافي العريق للطائفة الشيعية، وخصوصًا في جبل عامل، الذي كان على مرّ التاريخ منارة للعلم والأدب والاجتهاد الديني والفكري. لكن “الحزب”، ومنذ تأسيسه، عمل على تغريب الشيعة عن إرثهم الحضاري، واستبدال ثقافة الاجتهاد والنقاش بثقافة الطاعة والانغلاق الأحاديّة، وتحويل المجتمع من بيئة منتجة للفكر والفن إلى كتلة تعبئة تُدار بخطاب شعاراتي يُقدّس القوّة ويُقصي العقل.
وهكذا، يُصبح الصوت العالي بديلًا عن الفكرة، والانفعال بديلًا عن الوعي، في مشهد يعكس الانحدار القِيَمي والفكري والثقافي الذي أصاب المكوّن الشيعي، تحت عباءة مشروعٍ لا يشبهه ولا يمتّ إلى إرثه وروحه التعدّدية بصلة.