بقلم عقل العويط
على حبلٍ مفخّخٍ، رفيعٍ ودقيقٍ للغاية، يمشي المرء متوهّمًا بأنّ البلاد سائرةٌ بتؤدة على طريق الإصلاح البنيويّ، على رغم عثراتٍ هنا وهنالك، آملًا أنْ يستيقظ يومًا من الليل الكابوسيّ المستديم. على هذه الصورة المضنية “يعيش” المرء، وعلى قلقٍ، وكأنّ الريح تحته، متفاديًا الحائط الأبديّ الذي أمامه، لئلّا يقع في داهيةٍ دهياء.
لذا يروح يتقبّل العيش الموقوف تحت راية البطء المميت وفلسفته المتمادية في تجرّع كؤوس الدوران في الحلقة المفرغة، مستنهضَا أملًا مكسورًا، ومكذّبًا اليأس المستشري، كلّما تقدّم به العهد.
يظلّ هذا المرء يقنع (يوهم) نفسه بوعود العيش، من طريق إطالة حبل الصبر حينًا، ومن طريق التبلّه (من البله والبلاهة) أحيانًا، ممعنًا في تجريب ضغث الأمل العذب بممارسة “العيش الافتراضيّ”، بدون مبالغةٍ أو إفراط، مستأنفًا مسيرة سيزيف من جديد، برهانًا بعد برهان، لكنْ عبثًا، وبمرارة.
في ساعات التخلّي (وهي متكاثرة) يتراءى للمرء أنّ ثمة وراء الأكمة الراهنة (وأمامها) ما يذكّر بزمنٍ قيل إنّه قد مضى إلى غير رجوع. أربأ باستدعاء ذلك الزمن، وتعيينه، والتذكير بصفاته وأوصافه، في وقتٍ يتمادى عدوانٌ واحتلالٌ إسرائيليّان، ويُتغافَل عن ضرورة بتّ دعاوى وجرائمَ وكوارثَ، وتُعقَد صفقاتٌ، وتقع خيباتٌ ومراراتٌ، وتتمّ تخلياتُ سبيلٍ (بكفالات) وتبرئاتٌ، وتسري أحاديث عن مواطنين وأصحاب رأيٍ يتعرّضون لتضييقٍ ومضايقاتٍ، وقيل يُستدعَون استدعاءً إلى “فنجان قهوة” في مقرٍّ أو دائرةٍ ما.
هذا، وغيره، وخصوصًا البطء المريب الماكر، المراوِح والآسِن والمميت، من علامات “الدولة العميقة”، وهو لممّا يُشعِر بشيءٍ يشبه استتباب اليأس.
فليبرهن لي أحدٌ بالقلم والورقة، أنّ “إنجازًا” فعليًّا قد تحقّق في شؤونٍ بديهيّةٍ و”سخيفة” (وليس في مسألة حصريّة السلاح وتعالي الدويلات على الدولة والقانون والدستور)، من مثل وقف “الديكتاتوريّة” البرلمانيّة التي تمارسها رئاسة مجلس النوّاب، ووأد فسادها المستشري، واحتمال تأجيل الاستحقاق النيابيّ، وتلغيم انتخاب المغتربين، وتمرّغ مؤسّسات الدولة، ودوائرها، ووزاراتها، وموظّفيها، ومن مثل البدء بتيسير شؤون المواطنين في أحوال عيشهم، وغلاء معيشتهم، وانهيار عملتهم، وهزالة رواتبهم، وضياع أموالهم، وندرة مياههم، وكهربائهم، وتضافر شبّيحاتهم وموتوسيكلاتهم، وأزمات سيرهم وطرقهم و”ميكانيكهم”، وفقدان ضماناتهم الاجتماعيّة، وتراكم نفاياتهم، وتلوّث بيئتهم، و… فرار شبابهم إلى الخارج بحثًا عن فرصةٍ، أو سراب.
لا أعرف أن أضحك على نفسي، فكيف أضحك على قرّائي ومواطنيَّ، الموعودين مثلي بدولة المواطنة والإصلاح والتغيير والسيادة و… الأمل؟!
خلال الخمسين سنةً الأخيرة، راح اسم لبنان يقترن بما لن أتورّع عن تسميته بـ”النكبة”، تيمّنًا بعنوان الكتاب الذي أصدره للتوّ مفكّرنا الكبير أحمد بيضون، “في مهبّ النكبة اللبنانيّة” (دار الريّس)، حتّى صارت “النكبة” هذه لا فلسطينيّةً فحسب بل أيضًا كنيةً عن البلاد اللبنانيّة المألومة بوجودها وعيشها. ألأنّها قدرٌ لبنانيٌّ ملازمٌ للوجود، وموصولٌ بكينونته، ونظامه السياسيّ، وجماعاته السياسيّة، أم لأنّها قائمةٌ في جينات لبنانيّيه الذين لم يعرفوا يومًا أنْ ينتظموا في دولة المواطنة؟
بدون مساحيق تجميل وأكاذيب، إنّ “النكبة اللبنانيّة” هي نكبةٌ حقًّا، وقد آن الأوان ليثبت لنا أحدٌ عكس ذلك، لا بالخطب بل على أرض الواقع، بدءًا بـ”الأمور التافهة”، من مثل عربدة الموتوسيكلات وأزمات السير والنفايات والكهرباء والماء، وليس انتهاءً بأموال المودعين وجريمة تفجير المرفأ وبيروت وطريقة عمل رئاسة مجلس النوّاب وحصريّة السلاح وقيام دولة القانون والمواطنة.
لا اللبنانيّون يعيشون، ولا لبنان يعيش: هذه هي النكبة اللبنانيّة الحقيقيّة. ونحن في مهبّها.