#دمشق تُنهي عمل المجلس الأعلى… نهاية زمن #الوصاية وبداية اختبار #السيادة

بقلم بلال مهدي
@BilalMahdiii

يشكّل قرار دمشق بوقف العمل بالمجلس الأعلى اللبناني – السوري تحوّلًا لافتًا في طبيعة العلاقة بين البلدين، ويعبّر في جوهره عن مراجعة سورية لمرحلة الوصاية القديمة التي بدأت منذ توقيع معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق عام 1991. فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، شكّل المجلس إطارًا شكليًا لتعاونٍ سياسي واقتصادي، لكنه عمليًا كان أحد أبرز أدوات النفوذ السوري في الداخل اللبناني، وغطاءً مؤسساتيًا لمرحلةٍ امتزج فيها القرار اللبناني بالإيقاع الأمني والسياسي الصادر من دمشق.

اليوم، يأتي القرار من سوريا نفسها، لا من بيروت، وهو ما يمنحه دلالات متعددة تتجاوز البعد الإداري أو البروتوكولي. فدمشق، التي تجد نفسها في قلب إعادة ترتيب موازين القوى في الإقليم بعد سنوات الحرب والعزلة، تسعى إلى إعادة تعريف علاقتها مع لبنان من منطلق جديد، لا يقوم على التحكم، بل على البراغماتية السياسية والاقتصادية. ويبدو أن النظام السوري يدرك أن أدوات النفوذ القديمة “الأمنية منها أو السياسية” فقدت فعاليتها، وأن الاستمرار في ربط العلاقة بالمجلس الأعلى لم يعد يخدم مصالحه في المرحلة الراهنة.

من جهة أخرى، يُعدّ هذا القرار إشارة ضمنية إلى انتهاء مرحلة “الوسائط اللبنانية” التي كانت تُستخدم تاريخيًا كبوابات عبور نحو دمشق. فالمجلس الأعلى كان يُدار فعليًا من خلال شخصيات سياسية لبنانية لعبت أدوارًا مزدوجة بين الولاء لسوريا والتأثير داخل المؤسسات اللبنانية. اليوم، مع قرار الإلغاء، تُسحب من هذه القوى ورقة كانت تتيح لها التمدّد في الدولة اللبنانية تحت عنوان “التنسيق الثنائي”، ما يفتح الباب أمام توازن جديد داخل المعادلة السياسية اللبنانية نفسها.

غير أنّ هذه الخطوة لا تعني بالضرورة قَطع العلاقات أو تراجع النفوذ السوري بالكامل. فدمشق، وإن كانت تُنهي الشكل القديم للعلاقة، فإنها تدرك أهمية لبنان في سياقها الإقليمي. منفذ اقتصادي محتمل، وممرّ جغرافي إلى البحر، وساحة سياسية لا تزال متشابكة مع ملفاتها الأمنية. وبالتالي، يمكن النظر إلى القرار على أنه إعادة تموضع أكثر منه انسحابًا، في محاولة لبناء علاقة “منظَّمة” بدلًا من علاقة “مترهّلة” تُذكّر بمرحلة الاحتلال العسكري المباشر.

أما على المستوى اللبناني، فإن الخطوة السورية تضع الدولة أمام تحدّي إعادة تنظيم العلاقة من موقع الندّية. فملفات مثل عودة النازحين السوريين، وضبط الحدود، والتبادل التجاري غير الشرعي، كانت تُدار سابقًا عبر المجلس الأعلى، ما يعني أن غيابه سيستدعي إيجاد قنوات مؤسساتية جديدة أكثر شفافية ووضوحًا. هذا التحول يمكن أن يتحوّل إلى فرصة حقيقية، إذا أحسن لبنان استثمارها لبناء علاقة متوازنة قائمة على المصالح المشتركة، لا على التبعية السياسية.

إقليميًا، يمكن قراءة القرار أيضًا في سياق المحاولات السورية لاستعادة موقعها العربي بعد إعادة فتح الأبواب أمامها في القمم والمنتديات العربية. فالتخلّص من رموز الوصاية القديمة يمنح دمشق صورة أكثر مرونة أمام العواصم العربية، التي لا تزال تنظر بعين الريبة إلى إرث تدخلها في لبنان. ومن خلال هذه الخطوة، تحاول سوريا القول إنها باتت تتعامل مع لبنان “كدولة جارة” لا “كساحة نفوذ”، في إطار استراتيجية تهدف إلى تحسين موقعها التفاوضي إقليميًا ودوليًا.

في المحصّلة، يمكن القول إن قرار دمشق بإنهاء عمل المجلس الأعلى هو خطوة ذات طابع مزدوج، فهي من جهة تعكس نهاية مرحلة من النفوذ الأمني والسياسي الذي طبع العلاقة بين البلدين منذ التسعينات، ومن جهة أخرى تعبّر عن محاولة لإعادة صياغة العلاقة بطريقة أكثر انسجامًا مع المتغيرات الإقليمية والدولية. وبين قراءتين، يبقى المؤكد أن الصفحة القديمة طُويت، وأن العلاقة اللبنانية – السورية تدخل زمنًا جديدًا، عنوانه: “التعامل بالمصالح لا بالوصاية، وبالندّية لا بالتبعية.”

اخترنا لك