حتى لا يُسرق ١٣ تشرين : عصام أبو جمرة… رجل الدولة في زمن الانهيار

بقلم ناجي علي أمهز

ليس صحيحًا ما يتردّد عند كل ذكرى من ذكريات النضال العوني، ذاك النضال الذي وُلد في النار، وتحول لاحقًا إلى التيار الوطني الحر.

ففي نهاية الثمانينيات، كان اسم العماد ميشال عون يتصدر المشهد، رمزًا وقائدًا، لكن رمزيته لم تنبع من سحره الفردي ولا من أسطورته الشخصية وحدها، بل من إرادة شعب كان يبحث عن وطنٍ ينجو من وصايةٍ سورية قاتلة، ومن حربٍ أهلية أكلت كل معنى.

كان اللبنانيون يومها يريدون خلاصًا، فجاء نداء عون من قصر بعبدا ليُطلق صرخة وطن في وجه الغياب. ومن رحم تلك اللحظة، صُنعت الأسطورة، أسطورة الشعب قبل القائد.

لكن، في ظلال تلك الحقبة، كان إلى جانب الجنرال رجالٌ من معدنٍ نادر، رجالاتٌ حملوا همّ الدولة بعقلٍ وضميرٍ وشجاعةٍ وإيمان.

وفي طليعة هؤلاء كان اللواء عصام أبو جمرة، الرجل الذي يشبه الفجر في زمن الليل الطويل، رجل الدولة في زمن الانهيار.

قليلون في تاريخ لبنان يمكن أن يُشبَّهوا بعصام أبو جمرة: ذاك الضابط العصامي، النظيف الكف، الذي آمن بلبنان كما يؤمن المؤمن بصلاته.

رجل من طينة القادة الكبار الذين يجمعون بين الحزم والإنسانية، بين واقعية جورج واشنطن وصلابة ديغول وحكمة نابوليون حين يتأمل لا حين يحارب.

لم يكن مجرد نائب رئيس حكومة عسكرية، بل كان الدولة في لحظةٍ لم يبقَ من الدولة إلا الرماد.

عندما تقرأ سيرة أبو جمرة، تدرك أنك أمام رجلٍ صنع من الدمار إدارة، ومن الحصار إنتاجًا، ومن شحّ المال معجزة.

لقد أشرف على ست وزارات في وقتٍ كانت فيه الحرب تلتهم الحجر والبشر، ومع ذلك لم تتوقف واحدة منها عن العمل.

لم تُسجّل في عهده وزارة فاشلة، ولا صفقة مشبوهة، ولا ولاء لغير الوطن. كان يقول دائمًا: “الوزارة لكل اللبنانيين، فالطريق التي تُعبّدها لا تميّز بين ابن الحزب وابن الطائفة، بل تمرّ فوقها أقدام الجميع.”

كان يرى أن من يعبث بمال الدولة إنما يؤذي أهله قبل أن يؤذي وطنه. لذلك، كان المثال الذي لم يساوم، والصوت الذي لم يخف، والمسؤول الذي بقي في موقعه حتى اللحظة الأخيرة من عمر الحكومة العسكرية.

أتحدث عن عصام أبو جمرة لأنه هو الوجه الحقيقي لثورة 13 تشرين، هو ضمير تلك المرحلة التي أراد كثيرون أن يسرقوا مجدها بعد أن صمتت المدافع.

أتحدث عنه لأنه الرجل الذي بقي كما هو: يسكن بيتًا لم يُبدّل أثاثه منذ الثمانينات، يعيش من معاش تقاعده، يبيع زيت أرضه وزيتونها ليصون كرامته،
يبكي حين عاد من المنفى على رائحة زوجته التي رحلت في الغربة.

سيارته المتواضعة تشهد أنه لم يبدّل نفسه، وأن الشرف ليس شعارًا عنده بل أسلوب عيش.

وظُلم الرجل…

ظُلم لأنه من الروم الأرثوذكس، لا لأن كفاءته كانت ناقصة، بل لأن الحسابات الطائفية كانت أضيق من قامته.

ولو كان في بلدٍ آخر لكان رئيسًا للجمهورية، فذكاؤه السياسي وقدرته على التفاوض تضعه في مصاف كبار القادة.

يكفي أنه حين ذهب إلى بغداد ليلتقي صدام حسين طالبًا دعم الحكومة العسكرية، عاد بعد ربع ساعة فقط وقد نال كل ما طلبه.

ويكفي أنه حين صدر القرار 1559، استطاع أن ينقله بذكاء من يد الأميركيين إلى يد الفرنسيين بالتنسيق مع أحد مستشاري جاك شيراك، كي لا يُستخدم القرار أداة لتفجير لبنان، بل ليبقى ضمن حدوده السيادية، مؤمنًا أن حياد لبنان هو خلاصه.

وحين توترت علاقة الجنرال عون بالكنيسة المارونية بعد حادثة مثلث الرحمة البطريرك صفير الشهيرة، كان أبو جمرة هو الذي خفف هذا الاحتقان بما له من احترام ومكانة.

كما استطاع اللواء ابو جمرة من خلال اللقاء الأرثوذكسي تامين غطا مسيحي دولي للحكومة العسكرية من خلال روسيا، التي وجهت رسالة الى حافظ الاسد تحمله مسؤولية اي خطر يتعرض له ممثلي الحكومة العسكرية.
لقد حمى الرجل الحكومة بذكائه، ولبنان بشجاعته.

عصام أبو جمرة كان آخر من غادر بعبدا إلى السفارة الفرنسية، لأنه رفض الرحيل قبل أن يتأكد أن الوزارات التي كان يرعاها تعمل حتى اللحظة الأخيرة.
كان مستعدًا أن يُقتل في لبنان على أن يقال بعد الُنفى ان عصام فشل بادراة وزاراته.

هو الذي كان يرافق صهاريج المحروقات تحت القصف ليتأكد أنها وصلت إلى معامل الكهرباء.

هو الذي كان يشارك العمال في إصلاح الطرق ومدّ أنابيب المياه، ويشرف بنفسه على توزيع القمح والطحين، كأن الدولة كانت تختصر فيه.

في أحد الأيام، طلب مني اللواء أبو جمرة أن أتحدث إلى الإعلامي غياث يزبك للتحضير لمقابلة تاريخية حول حقبة الحكومة العسكرية، قبل ان يصبح نائبا عن البترون.

قال لي الاستاذ غياث يومها: “لقد فهمت من دولة الرئيس أنك جزء من ذاكرته.”
نعم، أنا من ذاكرة تلك الحرب، من الذاكرة التي ترفض أن تموت.

سيأتي يوم أكتب فيه، لا دفاعًا عن أحد، بل كي لا تُسرق 13 تشرين مرة أخرى،
ولا تُنسب بطولة الناس إلى طامحين جاءوا بعد أن سقطت البنادق وسكتت المدافع، وخرج السوري، واقصوا الشرفاء المضحين الذين تحملوا الويلات كي لا تموت ذكرى 13 تشرين.

إن عصام أبو جمرة يعيش اليوم عزة وكرامة لا يبلغهما إلا من عاش بضميرٍ نقي.

هو في سلامٍ مع نفسه، لأنه أدى واجبه تجاه وطنه كما يؤدي المؤمن صلاته الأخيرة: بخشوعٍ وصدقٍ ودمعةٍ لا تُرى.

وفي زمن الانهيار الذي صار فيه الشرف استثناءً، يبقى اسم عصام أبو جمرة، شاهدًا على أن في لبنان من بقي دولة… حين سقطت الدولة.

اخترنا لك