غزة والضمير العالمي : حين يسقط القناع عن حضارة تدّعي الإنسانية
إسرائيل كشفت زيف ديمقراطيتها، والجيل الحقوقي الجديد في الغرب يكتب بداية التمرّد الأخلاقي على نظام "الأبرتهايد"
بقلم الدكتور قاسم سعد
لقد قلنا في بدايات الإبادة التي ترتكبها إسرائيل إن منظومة حقوق الإنسان بكل مؤسساتها ومفاهيمها قد هُزمت أمام الحديد والنار، وتلاشت أصواتها تحت ضجيج الطائرات والتكنولوجيا المميتة. وقلنا أيضًا إن جيل الجامعات في أمريكا وأوروبا سيثور ويتمرد على أنظمته السياسية التي تواصل دعم نظام الأبرتهايد الصهيوني، لأن من تربّى على قيم العدالة والكرامة والمساواة لا يمكن أن يصمت أمام الإبادة.
لقد أصبحت التربية الحقوقية التي تشربها هؤلاء الشباب منذ صغرهم غذاءً أخلاقيًا يحفّزهم اليوم على النزول إلى الشارع، رفضًا لما يرونه من انحراف قاتل في ضمير حكوماتهم. فالقيم ذاتها التي حاول الغرب تصديرها إلى العالم، هي التي تعود اليوم لتقف في وجهه وتقول: لا.
إن الحقوق والكرامة الإنسانية لم تعد شعارات نظرية، بل تحوّلت إلى طاقة مقاومة دفعت كثيرين ممن دعموا سابقًا نظام الأبرتهايد إلى مراجعة مواقفهم، وإلى الاعتراف بحق الفلسطينيين في الحياة والوجود والحرية.
لقد عرّت إسرائيل نفسها أمام العالم، وأسقطت القناع الذي ظلّت ترتديه لعقود تحت شعار “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”. فمشاهد الدمار، ودفن الأطفال تحت الأنقاض، والقتل الممنهج بحق المدنيين، كشفت زيف كلّ خطابها عن الحرية وحقوق الإنسان. لم تعد إسرائيل بحاجة إلى من يفضحها؛ لقد تولّت بنفسها مهمة فضح صورتها أمام كل من كان يراها نموذجًا للتمدّن أو للديمقراطية.
إنّ ما جرى لم يكن مجرّد مواجهة عسكرية، بل انهيار أخلاقي كامل لمنظومةٍ كانت تتغذّى على ازدواجية المعايير. لقد أصبحت “الديمقراطية الإسرائيلية” عنوانًا للسخرية في كل محفلٍ أكاديمي وحقوقي، بعدما أثبتت الوقائع أنّها نظام فصلٍ عنصري دموي يستخدم كلّ أدوات القمع الحديثة لتبرير وجوده، ويقيس إنسانيته بمدى ولائه للآلة العسكرية.
وفي المقابل، كان الوعي الحقوقي لدى شباب الجامعات في العالم هو الردّ الطبيعي على هذا الانكشاف. لم يعد الصمت ممكنًا، ولا التبرير مقبولًا. هؤلاء الذين تشبّعوا بقيم العدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، باتوا اليوم ضمير العالم الحر الذي يتحرّك في وجه حكوماته، ويعيد تعريف معنى الكرامة والحرية من جديد.
لقد آن لفلسطين أن تستعيد خطابها الإنساني والحقوقي، بعد أن شوهته السياسة، وأضعفته الحسابات الإقليمية والدولية. فالقضية لم تكن يومًا مجرّد نزاعٍ على حدود أو تفاوضٍ على سلطة، بل هي قضية عدالة وحقٍّ في الوجود والكرامة. وما يجري اليوم في الشارع العالمي، من جامعاتٍ إلى نقاباتٍ إلى حركاتٍ مدنية، يؤكد أن الضمير الإنساني بدأ يفيق، وأن اللغة التي تُفهم وتؤثر ليست لغة السلاح وحدها، بل لغة الحقّ والعدالة.
إنّ العالم لم يتغيّر لأنّنا أقنعناه بخطاباتٍ سياسية، بل لأنّ الحقيقة عرّت نفسها على الشاشات وفي الضمائر. ومن هنا، ينبغي أن يعيد الفلسطينيون والعرب صياغة روايتهم بلغةٍ أخلاقية تستند إلى القيم العالمية لحقوق الإنسان، لا لتستجديها، بل لتُعيد تعريفها وفق واقعهم ومعاناتهم، ولتقول: نحن لسنا ضحايا بلا صوت، نحن صانعو معنى الكرامة الإنسانية في زمن الانحطاط الأخلاقي.
في النهاية، ليست غزة مجرّد جغرافيا تُقصف، ولا شعبًا يطلب التعاطف، بل مرآةٌ تعكس أخلاق العالم بأسره. في صمودها تنكشف القيم، وفي وجعها يُختبر الضمير الإنساني. كلّ صاروخٍ يسقط هناك يحرّك سؤالًا وجوديًا في وجدان البشرية: أيّ معنى تبقّى للحرية إن سكتت أمام الإبادة؟ وأيّ إنسانية تُبنى على ركام الأطفال؟
لقد أسقطت غزة كلّ الأقنعة، وأعادت تعريف البطولة والكرامة. فهي لم تعد عنوانًا للمأساة فقط، بل مدرسة للإنسانية والمقاومة الأخلاقية في وجه نظام عالميٍّ مأزومٍ في قيمه. ومن بين الدمار، خرجت الحقيقة واضحةً كالنور: أنّ الشعوب قد تُهزم عسكريًا، لكنها لا تُهزم أخلاقيًا، وأنّ الحقّ حين يسكن قلوب الناس، يصبح أقوى من كلّ جيوش الأرض.
لكن الصراع القادم لن يكون بين الفلسطينيين ونظام الأبرتهايد فحسب، بل بين جيلٍ جديد تشكّل وعيه على منظومة حقوق الإنسان والديمقراطية، وبين القوى التي تريد إلغاء تلك المنظومة لأنها تهدّد مصالحها. لقد تجاوزت المعركة حدود الجغرافيا، لتتحوّل إلى صراع بين القيم: بين من يرى الإنسان غاية الوجود، ومن يراه وسيلة للهيمنة.
ستحاول الأنظمة اليمينية المتوحشة “في الشرق والغرب على السواء” إعادة صياغة العالم على مقاسها، عبر تجفيف منابع الوعي الحقوقي، وتشويه المفاهيم التي صنعت ضمير الإنسانية الحديث. وستقدّم بدائل زائفة تحت شعارات “الأمن” و”السيادة” و”حماية الهوية”، لكنها في حقيقتها ليست سوى محاولات لإقصاء الفئات التحرّرية، وإعادة العالم إلى عصور الطاعة والاصطفاف الأعمى خلف السلطة.
غير أن الجيل الجديد، المتسلّح بالمعرفة والوعي الكوني، لن يسكت طويلاً. فقد أدرك أن الدفاع عن فلسطين هو دفاع عن ذاته، وعن معنى العدالة الذي تربّى عليه. ولذلك فإن المعركة المقبلة لن تكون سياسية فقط، بل وجودية وأخلاقية، بين حضارةٍ تحتضر بقسوتها، وجيلٍ يحاول أن يكتب بدمه معنىً جديدًا للإنسانية.