الحرب “الإسرائيلية” المفتوحة و الشرق الأوسط الجديد… خلفيات أميركية للهيمنة على المنطقة والعالم
بقلم د. زهير هواري
أقامت منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني ندوة بمقرها في وطى المصيطبة تحت عنوان “الحرب الإسرائيلية المفتوحة ومشروع الشرق الأوسط الجديد “، تحدث فيها كل من مدير مركز تطوير للدراسات الباحث الفلسطيني هشام دبسي والإعلامي والاكاديمي الدكتور زهير هواري، وحضرها حشد من المهتمين. هنا أبرز ما جاء في نص الرفيق زهير هواري حول تأثيرات تلك الحرب على دول الجوار العربية والمنطقة والعالم.
الحرب الأميركية بامتياز
تُعدّ الحرب الإسرائيلية المفتوحة التي تعصف بالمنطقة، وتتسع ميادينها من فلسطين إلى لبنان وسوريا واليمن وتصل حتى طهران، حربًا أميركية قبل كل شيء. فهي ليست حربًا محلية أو إقليمية، بل جزء من مشروعٍ شامل لإعادة ترتيب خرائط النفوذ في العالم، تُديره واشنطن سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا.
والواقع أنه لم يشهد العالم، منذ الحرب العالمية الثانية، حربًا على هذا القدر من الضراوة والتدمير، إذ تمارس إسرائيل خلال معاركها، بدعم أميركي مباشر، سياسة إبادة وتطهير عنصري غير مسبوقة في القرن الحادي والعشرين. أما دوافع الولايات المتحدة لخوض هذه الحرب عبر وكيلها الإسرائيلي، فمتعددة المستويات: سياسية، وأيديولوجية، واقتصادية، وثقافية.
فعلى الصعيد السياسي، يبرز صعود اليمين المتطرف في الغرب عموما، وفي الولايات المتحدة تحديدًا، كأحد أبرز محرّكات هذا المسار. هذا الصعود مرتبط بتفاقم أزمات المجتمعات الغربية نفسها: من ركود اقتصادي وتراجع وزن ودور الطبقات الوسطى، إلى موجات الهجرة من دول الجنوب، وخصوصا من العالم العربي وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وقد وظّف اليمين هذه الأزمات لإثارة الخوف القومي والعرقي، وتحميل المهاجرين مسؤولية التراجع الاقتصادي والاجتماعي، فكانت النتيجة عودة النزعات القومية البيضاء وسياسات الإقصاء والعسكرة.
وفي هذا السياق، لم يكن وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة صدفة، بل تتويجًا لهذه النزعة الشعبوية، التي رافقتها حملات إعلامية ودينية تعيد إنتاج خطاب “أميركا أولًا”، وتبرر الحروب الاستباقية باعتبارها دفاعًا عن “العالم الحر”.
أما على المستوى الاقتصادي، فقد كشفت التقارير الدولية، ومنها تقرير منظمة “أوكسفام” عن تكدّس غير مسبوق للثروات في يد فئة ضئيلة من سكان العالم، إذ يستحوذ 1% من سكان الكوكب على 82% من الثروة المنتَجة سنويًا، ويمتلكون أكثر من نصف الثروة العالمية، بينما يتقاسم الـ95 % الباقون الفُتات. والواضح أنه في السنوات الأخيرة تنامت ظاهرة “المليارديرات المتحكمين في السياسة العالمية”، بل ظهرت طبقة جديدة من “أصحاب التريليونات” الذين يشاركون مباشرة في صناعة القرار السياسي. إن مشهد حفل تنصيب ترامب كرئيس للمرة الثانية للولايات المتحدة الأميركية، الذي حضره كبار مالكي الثروات العالمية كإيلون ماسك وجيف بيزوس ومارك زوكربيرغ وعائلة أرنو ومريم أدلسون، لم يكن سوى إعلان رسمي عن انتقال السلطة الفعلية إلى رأس المال العالمي، الذي لم يعد يكتفي بتوكيل الساسة، بل بات يمسك بزمام القرار مباشرة.
الجذور التاريخية للانحياز الأميركي
ليس الانحياز الأميركي لإسرائيل مسألة مصالح استراتيجية فحسب، بل هو أيضًا نتاج ثقافة دينية وتاريخية عميقة الجذور. فقد ارتبط التأسيس السياسي للولايات المتحدة منذ القرن الثامن عشر بخطابٍ ديني كالفينيّ يرى في “الأمة الأميركية” نظيرًا للأمة الإسرائيلية المختارة. ولذا ترسّخ في الوعي الديني والسياسي الأميركي أن إسرائيل ليست “حليفًا” لها، بل “تجسيدٌ رمزي” لوعدٍ توراتي مشترك.
وقد عبّر عن ذلك رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون بقوله: “إن الدعم لإسرائيل التوراتية جزء من تأسيس أمتنا قبل 249 عامًا”. وهو التعبير ذاته عن تفوّق العرق الأبيض وشرعية التوسع الإلهي، التي دفعت وزير الدفاع الأميركي الحالي إلى وصف الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بأنه “معجزة جديدة”، تمهيدًا لـ“معجزة إعادة بناء الهيكل”، في رفض صريح لأي حلّ يقوم على مبدأ قيام الدولتين، بل تأكيد على “دولة واحدة فقط”. هي بالطبع إسرائيل وليست فلسطين.
قطب أم أقطاب عدة؟
كثيرون يتصورون أن ترامب يدير سياساته بعفوية عبر تغريداته وانفعالاته السريعة، لكن الحقيقة أنه يمثل توجهاً استراتيجياً يستهدف استعادة “العظمة الإمبراطورية” لأميركا في وجه القوى العالمية المنافسة. فقد عمل منذ تولّيه السلطة على تفكيك المنظومات المتعددة الأطراف التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، بدءًا من ضرب الاتحاد الأوروبي وتشجيع خروج بريطانيا عبر “بريكست”، وصولاً إلى انسحاب الولايات المتحدة من منظمات الأمم المتحدة المختلفة، كاليونسكو، ومنظمة الصحة العالمية، والأونروا، والمحكمة الجنائية الدولية. واغراق الاتحاد الروسي في الحرب الروسية – الأوكرانية التي تتابع فصولا.
إن جوهر هذه السياسة هو فرض علاقاتٍ ثنائية مختلة ومنفردة بين واشنطن وكل دولة على حدة، ما يؤدي عمليًا إلى إسقاط المنظومة الدولية والقانون الأممي الذي شكّل الإطار الناظم للعلاقات العالمية. بهذا، يصبح النظام الأميركي بديلاً عن النظام الدولي ذاته، وتُكرَّس الهيمنة من خلال تبعية اقتصادية وأمنية مباشرة، لا من خلال الشرعية الأممية.
ورغم الحديث المتزايد عن تعدد الأقطاب في النظام العالمي، تبقى الولايات المتحدة القطب العسكري الأوحد، بحكم ترسانتها الحربية، وتحكّمها في حلف الناتو، ونجاحها في استنزاف روسيا في حرب أوكرانيا، وفي جرّ أوروبا إلى تبعية جديدة تحت مظلة تلك الحرب المتواصلة. في المقابل، برزت التكتلات الآسيوية، ولا سيما اتفاق “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” الذي وقّعته 15 دولة آسيوية كبرى، بما فيها الصين واليابان وكوريا الجنوبية، ليشكّل نواة قطب اقتصادي جديد. ومع ذلك، يبقى ميزان القوى العسكرية والسياسية مختلاً لصالح أميركا التي تفرض إيقاعها على العالم في كل منعطف.
هل حقًا هو شرق أوسط جديد؟
انتقلت هذه الرؤية الإمبراطورية إلى منطقتنا عبر ما سُمّي بـ“مشروع الشرق الأوسط الجديد”، الذي وُلد من رحم “الفوضى الخلّاقة” خلال ولاية الرئيس أوباما. هذا المشروع لا يستهدف إعادة بناء المنطقة على أسس ديمقراطية كما زُعم، بل على قواعد تفتيتية تُعيد رسم الحدود وفق الهويات الطائفية والاثنية والمناطقية.
فالمطلوب، وفق الرؤية الأميركية – الإسرائيلية، إنهاء مفاعيل سايكس– بيكو لا لصالح الوحدة القومية أو التحرر الوطني، بل لصالح إعادة تشكيل كيانات ضعيفة ومتنازعة، بما يضمن أمن إسرائيل وهيمنتها على فضاءات المنطقة من جوانبها كافة، وفي مقدمها موارد الطاقة وممرات التجارة العالمية. واستمرار دورانها تسبح في الفضاء الأميركي دون سواه.
وتتجاهل الولايات المتحدة كليًا مبدأ السيادة الوطنية الذي نشأ مع كيانات ما بعد الاستقلالات، مركّزة فقط على حماية إسرائيل كـ“قلعة متقدمة للمصالح الغربية”، وضمان السيطرة على النفط والغاز بوصفهما العصب الحيوي للاقتصاد الدولي. من هنا، لا تتردد واشنطن في دعم تفكيك دولٍ بأكملها “باستثناء دول التطبيع” طالما أن ذلك يعزز الأمن الإسرائيلي ويكرّس تفوقها الإقليمي.
التفكك العربي وإسرائيل الكبرى
منذ السابع من أكتوبر، أخذ التدخل الأميركي المباشر في صراعات المنطقة بُعدًا أكثر وضوحًا، إذ باتت واشنطن طرفا مقرّرًا، إن لم تكن الطرف الوحيد المقرر في إدارة العمليات العسكرية والسياسية التي تقود إلى تكريس هيمنة إسرائيل على المجال العربي.
فقد أدّى انهيار جامعة الدول العربية ومنظومة الأمن القومي العربي ومجلس الدفاع المشترك، وتفكّك مؤسسات الدول الوطنية، إلى فراغ الساحة أمام التمدد الإسرائيلي الذي يقدَّم الآن باعتباره “ضامنًا للاستقرار”. ومع غياب الموقف العربي الموحد، تحوّل الخطاب الإسرائيلي من الدفاع إلى الهجوم الاستباقي، مستندًا إلى تفكك الجبهات العربية وتآكل الإرادات الوطنية.
وفي هذا السياق، يتكامل المشروعان الأميركي والإسرائيلي. فترامب واليمين الأميركي يجدان في إسرائيل قاعدةً متقدمة للدفاع عن “الحضارة الغربية” في مواجهة “الإرهاب”، بينما يرى نتنياهو في الدعم الأميركي فرصة تاريخية لتوسيع حدود دولته نحو استعادة حلم “إسرائيل الكبرى” التوراتي، القائم على طرد الفلسطينيين من غزة والضفة، وتهجيرهم إلى مصر والأردن، ودفن فكرة الدولة الفلسطينية نهائيًا. إنها محاولة ممنهجة لنسف السردية الفلسطينية والعربية، وإعادة صياغة الجغرافيا السياسية للمنطقة وفق منطق القوة الإسرائيلية.
إيران: القوى الحاجزة
أغرت انهيارات النظامين العربي والإقليمي إيران بتوسيع نفوذها عبر بناء “قوى حاجزة” في المشرق العربي، على غرار دول الغساسنة والمناذرة قبل الفتوحات العربية – الاسلامية، لتأمين حدودها وتوسعها ومشروعها النووي. وهكذا وضعت يدها على أربع عواصم عربية (بغداد، دمشق، صنعاء، بيروت) عبر شبكة من الحلفاء المحليين والمليشيات الطائفية، من “حزب الله” إلى “الحوثيين” و“عصائب أهل الحق” وغيرهم.
لكن هذا التمدد الذي بدا في البداية استثمارًا استراتيجيًا مربحا في الفراغ العربي، تحوّل إلى عبءٍ مع دخول إسرائيل والولايات المتحدة على خط المواجهة. فالصدام الأميركي–الإيراني، وإن اتخذ شكلًا نوويًا أو صاروخيًا، يخفي جوهره الحقيقي: صراع على فرض النفوذ في المجال العربي، لا على حدود إيران فقط.
ورغم أن واشنطن تتذرع ببرنامج التخصيب النووي والإنتاج الصاروخي البالستي لتبرير حصارها لإيران، فإنها هي نفسها من وفّرت لطهران هامشًا واسعًا للتحرك طوال العقود الماضية، إلى أن قررت توظيف الصراع معها كمدخل لحروب هيمنة جديدة. ومع انكشاف العزلة الإيرانية، وانقطاع الوساطات الروسية والصينية، يبدو أن المنطقة ماضية نحو جولة ثانية من الحرب، جرى التمهيد لها بضغطٍ اقتصادي ودبلوماسي أوروبي شديد، وصولًا إلى اعتماد الحسم العسكري إذا لزم الأمر.
الدور التركي الوارث
وتسعى تركيا، بوصفها عضوًا في حلف الناتو، إلى استثمار تراجع الدور الإيراني لتقديم نفسها وريثًا إقليميًا جديدًا. وتستند أنقرة إلى إرثٍ عثمانيٍّ وتاريخيٍّ عمره قرون، وإلى علاقاتها الواسعة مع سوريا والعراق وعموم المنطقة.
غير أن إسرائيل تنظر بعين القلق إلى هذا الطموح التركي الذي يقترب جغرافيًا وسياسيًا من مجالها الحيوي، وهو ما عبّر عنه تقرير “ناغل” الإسرائيلي (كانون الثاني 2024)، الذي حذّر من احتمال مواجهة مباشرة مع تركيا نتيجة تمدد نفوذها عبر الفصائل السورية الحليفة. وقد علّق نتنياهو على التقرير قائلًا: “إيران كانت تهديدنا الأكبر، لكن علينا أن نكون مستعدين لقوى جديدة تدخل الساحة”.
ولذلك تعمل إسرائيل، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، على تعطيل هذا الدور التركي عبر إضعاف سوريا عسكريًا بشكل كامل، وإبقاء الشمال السوري مشتعلا ومنطقة نفوذ متنازع عليها، تمنع أي قوة إقليمية من الاستقرار أو إعادة بناء الدولة السورية المركزية على كامل التراب السوري.
سوريا كمنطقة توسع إضافي
اذن تتعامل إسرائيل مع سوريا بوصفها المدى الحيوي الأقرب لاستكمال مشروعها التوسعي. ومنذ تهاوي نظام بشار الأسد السوري، سيطرت إسرائيل على مرتفعات جبل الشيخ وقممه الاستراتيجية وعلى ريفي القنيطرة ودمشق، ثم نفذت تل أبيب مئات الغارات على مواقع الجيش السوري والقوات الإيرانية و“حزب الله”، في محاولة لتدمير ما تبقى من مقومات الدولة والجيش.
يرى نتنياهو أن سقوط النظام السوري يشكّل “فرصة تاريخية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط” بما يتفق مع التصور الصهيوني لدولة يهودية كبرى. فالتدخل الإسرائيلي في الجنوب السوري، واستغلال التوترات الطائفية في السويداء ومحيط دمشق والشمال الساحلي والداخلي في حلب ومع الاكراد، يدخلان في إطار خطة أوسع لتقسيم سوريا إلى كانتونات مذهبية وإثنية، تمنع قيام دولة موحدة تشكل جيشا وطنيا قويا.
ولا يخفى أن هذا المشروع يستند إلى إجازات وسوابق أميركية، بدءًا من الاعتراف بضم الجولان عام 2019 من جانب ترامب نفسه خلال ولايته الأولى، وصولًا إلى السيطرة على كامل المواقع الاستراتيجية في جبل الشيخ والسويداء والقنيطرة وريف دمشق برضاه لتوسيع حدود الدولة الإسرائيلية الضيقة، بما يهدد أمن الأردن ولبنان والعراق وتركيا ويفتح الطريق البري والجوي نحو ايران، ويضع خط بيروت – دمشق تحت السيطرة النارية الإسرائيلية المباشرة.
لبنان ضمن الأهداف المباشرة
أما لبنان، فيبقى الساحة الأكثر هشاشة أمام هذا المشروع. فالاتفاق الذي رعته واشنطن وباريس قبل أكثر من عام لوقف الأعمال العدائية بين إسرائيل ولبنان بعد المواجهات الأخيرة، لم يُترجم إلى هدنة فعلية. إذ تواصل إسرائيل هجماتها واغتيالاتها في العمق اللبناني، بما في ذلك العاصمة وضاحيتها الجنوبية والبقاع، بينما تفرض احتلالا ميدانيًا جديدًا في الجنوب عبر تجريف القرى ومنع إعادة الإعمار، وتثبيت وجودها العسكري في مواقع استراتيجية حاكمة والتحكم بباقي المناطق وديناميتها الاجتماعية والاقتصادية.
هذا الواقع، المقترن بضعف الدولة اللبنانية وتشتت مؤسساتها، يضع البلاد تحت رحمة العدوان الدائم، ويمنعها من التقدم نحو الشروع في بناء الدولة ومؤسساتها. كما يمهّد، بغطاء أميركي، لفرض تسويات جديدة تُشرعن الاحتلال الجزئي، وتربط مصير لبنان بتفاهماتٍ إسرائيلية – أميركية لا مصلحة وطنية فيها.
الخلاصة، تُظهر مجمل التطورات أن الهدف الأوسع لهذه الحرب الممتدة ساحات وزمنا هو إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط على أسس طائفية واثنية، حتى ولو لم تكن مقننة ومعترف بها دوليا، تضمن هيمنة إسرائيل وتحالفها العضوي مع الولايات المتحدة. فالمطلوب ليس فقط إسقاط فكرة الدولة الفلسطينية، بل تفكيك الدول العربية المحيطة نفسها أيضا، وتحويلها إلى كيانات تابعة تدور في الفلك الإسرائيلي – الأميركي.
إننا أمام مشروع تاريخي يعيد إنتاج الاستعمار بوسائل بطش جديدة، تحت شعارات “السلام” و“الأمن” و“محاربة الإرهاب”. وفي ظل هذا المشهد، تغيب الإرادة العربية الجامعة، فيما تتناسل الحروب وتتصاعد الأزمات، وتُقاد المنطقة برمتها إلى نظام إقليمي خاضع لمعادلات القوة الإسرائيلية الأميركية، في وقت يواصل فيه نتنياهو التباهي بأن “إسرائيل تقاتل على سبع جبهات وربما أكثر”، وكأنها وصية على مستقبل المنطقة وشعوبها.
ختاماً، لا يمكن فهم هذه الحرب إلا بوصفها نتاجًا مباشرًا لعالم يزداد اختلالًا في موازين المواثيق والقوانين الأممية والعدالة والحرية والسيادة. فالنظام الدولي، الذي يحكمه منطق القوة العارية ومصالح رأس المال العسكري والسياسي، الذي يُعيد إنتاج الهيمنة بأشكال جديدة، فيما تظل شعوب المنطقة، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، تدفع ثمن هذا الاختلال بين حقها في التحرر وواقع التبعية المفروضة عليها.
إن الموقف الوطني والقومي والتقدمي واليساري الحقيقي اليوم لا يقتصر على إدانة العدوان أو المطالبة بوقف الحرب، بل يتجاوز ذلك إلى مساءلة بنية النظامين الإقليمي والدولي اللذين جعلا من الاحتلال والإبادة والتمييز أدوات “شرعية” في إدارة وتغذية الصراعات. فالمطلوب ليس فقط إنهاء حرب، بل كسر منظومة كاملة من التواطؤ السياسي والاقتصادي التي كرّست عجز العرب وتشتت إرادتهم الجماعية.
إن البديل الواقعي والضروري ينطلق بداية من ضرورة الاعتراف بالهزيمة بدل ادعاء انتصارات وهمية، والتفكير في كيفية الخروج من أحكامها القاهرة نحو بناء مشروع تحرري عربي جديد، يقوم على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية، ويعيد الاعتبار لفكرة المقاومة بوصفها نضالا مجتمعيا من أجل التقدم والتنمية ودفاعًا عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، لا كأداة لتكريس سلطات الأمر الواقع الطائفية أو محاور النفوذ الاقليمية. هذا المشروع، وحده، يمكن أن يشكل قاعدة لإحياء الأمل في شرق أوسط مختلف. شرق أوسط تُصاغ توازناته من خلال إرادة الشعوب وليس من غارات وفوهات مدافع وصفقات القوى الكبرى.