بقلم عقل العويط
طابة المصير في ملعبنا، وتستحثّنا على اتّخاذ قرارٍ تاريخيٍّ ينجّي بلداننا وشعوبنا من تكرار المقتلة التي شُغفت مازوشيّاتُنا الحمقاء بها، حدّ أنّ بعضنا بات لا يطيق فراقها، بل يعشق الخسارة، وأنْ نعيش قتلى. بدليل أنّنا لا نكفّ عن الاستخفاف بموازين القوى، فنرتكب الأغلاط الجوهريّة إيّاها، ونعيد الكرّة، وكأنّنا لم نستخفّ، ولم نرتكب، ولم نعاود الارتكاب.
ليست المازوشيّة هي العلّة الوحيدة التي تُفقِدنا الرؤية. فنحن دون فلسفة الدولة، وسماسرة، وبيّاعو أوهام وضمائر وبلدان وشعوب، ونكذب على أنفسنا، ونتبادل التكاذب، بل نصدّق كذبنا وتكاذبنا، ونريد أنْ “نجبر” العالم بتصديقهما.
لم يعد ثمّة وقتٌ بعد الآن للتلاعب بالوقت، هربًا إلى أمام، تراجعًا إلى وراء، أو دورانًا في حلقةٍ مفرغة. ما على الطاولة، قد يكون وليمةً مسمومة، ولا يمثّل فرصةً ذهبيّة، لكنّه “حقيقة” جائرة. يكفي أنْ نعي ذلك وعيًا غير منقوص، بحيث يُترَك للعقل أنْ يضعنا أمام علمٍ لا مجال للخطأ فيه: هذه هي موازين القوى، وقد خضنا حروبًا كثيرةً، وارتكبنا حماقاتٍ كبرى، فماذا ربحنا، وماذا خسرنا؟ فهل خسرنا سوى ضحايانا وقتلانا وشهدائنا وأراضينا وبيوتنا وأحلامنا وأعمارنا وأفراحنا ومستقبل أجيالنا؟ وهل سوى اللغو والإنشاء والخطابة والوهم والهلوسة والإنكار، ما ربحنا؟
آخرها “حرب الإسناد”، التي لا يزال علينا أنْ نجتاز مشقّاتٍ عظيمةً، قبل أنْ نتحرّر من ارتداداتها، فنستعيد عقولنا المصادَرة والمسروقة والمستعبَدة. فليتها لم تكن، لا هي ولا “طوفان الأقصى”، ولا… “حروبنا” الأخرى المستمرّة، الصغيرة منها والمتصاغرة.
أخشى ما أخشاه، أنْ نتعامى، مرّةً جديدةً عن الرؤية الواقعيّة، فنواصل “مسيرتنا” العامرة بالنكبات والهزائم، مدجّجين بالمعميات والانفصامات والتخرّصات والأوهام والحماقات، لا يعنينا أنْ نعيد النظر في ما نحن فيه، ولا أنْ نقارن بين ما جنيناه وما خسرناه.
إنّه زمن النقد الذاتيّ، وهو يلحّ إلحاحًا “وجوديًّا” على شعوب المشرق العربيّ، وعلينا نحن اللبنانيّين بشكلٍ خاصّ، بسبب ما انتهينا إليه من محنٍ وطرقٍ مسدودة.
الوعظ مقيتٌ ومستهجَنٌ وثقيلُ الظلّ، وقد يعاكس المرجوَّ منه، وخصوصًا عندما ينطوي، لاإراديًّا، على شيءٍ من التنزيه الذاتيّ، والاستعلاء.
الواقعيّة تفترض سحب الدونكيشوتيّات والرؤى الانتحاريّة والحسابات الخاطئة من التداول.
موازيننا خاطئة. ارتباطاتنا وتبعيّاتنا خاطئة. الكذب على الذات، والتكاذب، مصيبة. بيع الذات والبلاد والناس لأيٍّ كان مصيبة. الابتزاز مصيبة. الهرب إلى الأمام مصيبة. الإنكار مصيبة. والانتفاخ بالذات هو المصيبة، وبه يصل المرء في حينٍ من الدهر، إلى نقطة اللّارجوع، فيتوهّم أنّه الحقّ والحقيقة، ولا يعود قادرًا على إقناع نفسه بأيّ احتمالٍ معاكسٍ أو مضادّ. آنذاك، يفقد البوصلة، ويصبح محكومًا بمنطقٍ قياميٍّ لا حياد عنه، من شأنه أنْ يزجّ به، وبالآخر، وبالجميع، في استحقاقاتٍ ومواجهاتٍ ستؤول إلى الخراب الأقصى.
كلّنا في الوحل، وكلّنا في المحنة الوجوديّة. الخروج من الطريق المسدود ضرورةٌ مطلقة. النكبة هذه ليست فلسطينيّةً فحسب، بل لبنانيّةٌ أيضًا وخصوصًا. وإذا أمعنّا النظر العاقل، وجدناها شرقيّةً مطلقًا، وهلمّ.
الطابة، طابة المصير في ملعبنا. ثمّة بيننا مَن لا يرى (أو لا يريد أنْ يرى) هذه “الحقيقة” الخطيرة.
ثمّة مَن تجرّع السمّ مرغمًا قبلنا (ألا تتذكّرون؟!). وها ثمّة مَن يتجرّعه الآن. لم نعد نريد أنْ يجرّنا أحدٌ إلى مقتلة. ولا أنْ نموت من أجل لا شيء. ولا من أجل أيّ شيء. فقط أنْ نعيش، وبشيءٍ من كرامة.
… وهذه ليست موعظة!