راشيا الفخار… البلدة التي سكنت القلب قبل الدار

بقلم رياض عيسى

وُلد جدي محمد حسين خليل عيسى في بلدة الهبارية، وعاش يتيم الأب والأم، لكنّه لم يعرف يومًا معنى الضعف أو الانكسار تخطى كل الظروف والأوضاع المعيشية الصعبة. الى ان اصبح رجلاً ولا كل الرجال، شهمًا، أصيلاً ، خلوقاً، نبيلاً عطوفاً صلباً في مواقفه المبدأية، صادقًا في قوله، ومقدامًا في نصرة الحق والمظلومين. حمل في قلبه كل قيم النخوة والكرم والرجولة، فكان بيته مفتوحًا للضيوف، وصدره واسعًا للأصدقاء، ولسانه لا ينطق إلا بالحق.

أحبّ صبية من بلدة راشيا الفخار المجاورة لقريته الهبارية تدعى ثلجة بشارة العدس، فواجه العادات والتقاليد، وانتصر للحب على الأعراف، تزوجها ليكتب مع شريكة عمره حكاية حب ودفء وتحد جمعت بين قلبين وبلدتين، تزوّجها ليؤسّس معها عائلة جميلة من خمسة شبان وصبيتين. كان الحبّ الذي جمعهما أقوى من المسافات وأسمى من الفوارق، فصار رابطًا دائمًا بين الهبارية وراشيا الفخار، بين جبل الشيخ وسهول العرقوب، بين المسلمين والمسيحيين في أبهى صور التلاقي الإنساني.

أما والدي، فكان ثاني أبنائه. عاش طفولته في كنف جده لأمه يوسف بشارة العدس في راشيا، الذي أحبّه كثيرًا وأطلق عليه لقب “أبو رضا”، وهو الاسم الذي لازمه طوال حياته رغم أنّه لم يكن في بيتنا من يُدعى “رضى”!

كبر والدي وهو يحمل في قلبه محبة خالصة للناس، تمامًا كما ورثها عن أبيه وجدّه. هاجر إلى البرازيل، لكنه لم يحتمل البعد عن الوطن، فعاد إلى ربوع الجنوب، إلى الأرض والناس والكرامة. تزوّج واستقرّ لسنوات في راشيا الفخار، البلدة التي أحبّها وأحبّ أهلها، فعمل بينهم، وشاركهم أفراحهم وأتراحهم وقداديسهم، وعزز علاقاته مع اهلها ودخل بيوتها ليصبح واحداً من اهلها الطيبين، ثم عاد إلى الهبارية دون أن يقطع الصلة بهم يومًا.

كبرنا نحن الأبناء على حبّ راشيا الفخار، وكأنها بلدتنا الثانية. كنتُ أرافق والدي في زياراته، فيستقبلنا الأهل بالأحضان، ويمتدّ الترحيب من بيتٍ إلى بيتٍ حتى أصبحت أشعر أن كل بيوت راشيا بيوتنا، ولطالما كان بيتنا أيضاً ودكاننا في الهبارية مقصداً للأهل في راشيا. وكان والدي ينادي الجميع بعد أن يفتح ذراعيه مستقبلاً ضيوفه بحفاوة بقوله: “أهلاً يا خال… كيفك يا خال؟”

وكنتُ أستغرب كيف يمكن أن يكون كلّ أهل راشيا الفخار “أخواله” وكل أهل حاصبيا والعرقوب أهله! لكنّي فهمت لاحقًا أن الكلمة لم تكن لها علاقة بقرابة الدم فقط ، بل قرابة القلب والمحبة والمروءة.

علاقة والدي براشيا كانت امتدادًا لطبيعته المنفتحة وعلاقاته الواسعة في المنطقة. في كفرحمام له أهل، وفي كفرشوبا وشبعا وحاصبيا والفرديس إخوة وأصدقاء، فشكل والدي جسرًا من المحبة يربط بين القرى والناس على اختلاف انتماءاتهم.

واليوم، كلّما مررتُ أو زرت راشيا الفخار، أشعر أني أدخل بلدتي وبيت العائلة الكبير — بيت يملؤه عبق الماضي الجميل ودفء الذاكرة وطيف أهلي . هناك، بين الوجوه الطيبة والقلوب النقية، ما زال حبّ والدي وجدي وجدتي حياً، يروي الحكاية الأجمل: أن الوطن الحقيقي ليس المكان الذي نولد فيه فقط، بل أيضاً المكان الذي يحتوينا بحبٍّ صادقٍ لا يعرف الطوائف ولا الحدود.

اخترنا لك