بقلم مكرم رباح
@makramrabah
عندما أسّس اللورد روبرت بادن باول الحركة الكشفية سنة 1910، لم يكن ليتخيّل أن تُستَغَل هذه الحركة الشبابية، القائمة على الخدمة العامة وفعل الخير، في خدمة مشاريع تفيض بالحقد والكراهية. من إيطاليا الفاشية إلى ألمانيا النازية، ثم إلى القمصان متعددة الألوان في عالمنا، حُرّفت فكرة الكشافة أحيانًا عن معناها الأصلي لتصبح: صناعة جندي عقائدي بدلًا من بناء مواطن صالح.
بالطبع، بادن باول، الضابط البريطاني الذي خدم في حرب البوير في جنوب أفريقيا، لم يكن حاضرًا الأحد الفائت في مدينة كميل شمعون الرياضية، حين احتفل ما تبقّى من فلول حزب الله بالذكرى الأربعين لتأسيس كشافة المهدي، في مشهدٍ وُصف بأنه “عيد الكشافة” لكنه كان في الواقع عرضًا دعائيًا لثقافة الطاعة والموت. تحت راية “جيل السيد”، احتشد ما يزيد على 75 ألف مشارك في مشهدٍ أُريد له أن يكرّس “الأجيال التي نذرها الحزب للشهادة”، حيث يتزامن هذا الاستعراض مع الذكرى السنوية الأولى لمقتل الأمين العام السابق للحزب حسن نصر الله، ومع الذكرى الأربعين لتأسيس كشافة المهدي.
لكن ما شهدناه في ملعب كميل شمعون لم يكن احتفالًا كشفيًا، بل كان طقسًا من طقوس الولاء الحزبي. لقد حَشَدوا آلاف الأطفال بزيٍّ موحّد وهم يهتفون لزعيمٍ راحل، لا لوطنٍ باقٍ. ما سُمّي “عرضًا كشفيًا” لم يتضمن شيئًا من روح الكشافة اللبنانية، بل كان استعراضًا لعقيدةٍ مغلقةٍ تُخضِع الطفولة لمنطق الحزب، وتحوّل التربية إلى تجييشٍ أيديولوجي.
من يَعرف تاريخ الحركة الكشفية في لبنان يُدرك أن شعارها الأصلي بسيط وجَليّ: الله، الوطن، والعائلة. الكشاف في فلسفته الأولى هو مدرسة في المواطنة والمسؤولية، لا أداة تعبئة. وأنا، كمن نشأ في جمعية الكشاف اللبناني، أعرف تمامًا معنى أن يكون الكشاف خادمًا لوطنه، لا تابعًا لعقيدة أو زعيم.
نحن الكشفيون اللبنانيون نتشارك القيم نفسها المبنية على القَسم والشرف والواجب. نُطلقها كلنا: “أعاهد مقسماً بشرفي أن أقوم بواجبي تجاه الله والوطن، وأن أساعد الناس في كل حين، وأن أطيع شريعة الكشاف وأحييها”.
إن شريعة الكشاف، التي تربّت عليها أجيال لبنانية، تُعلّمنا أن نكون مخلصين ونافعين لوطننا، شرفاء، وأصدقاء للجميع؛ وأن نرى في الطبيعة جمالًا، وفي الناس إخوة، وأن نعيش بضميرٍ حيٍّ ونَنعَم بطهارة فكرية. هذه هي الكشافة الحقيقية، لا ما عُرض في مدينة كميل شمعون الرياضية، إذ تحوّل وعد الشرف إلى بيعة حزبية، والراية الوطنية إلى راية مذهبية.
ما يسمى بـ “جيل السيد” لا يُمثّل جيلًا من الكشفيين أو المواطنين، بل هناك خوف من أن يتحول هذا الجيل إلى مجندين صغار في سبيل عقيدة الموت، جيلٌ يُربّى على الطاعة العمياء، ويُلقَّن أنّ خلاصه في الفداء، لا في الحياة. هذا النموذج ليس جديدًا؛ إنه تكرارٌ لما عرفته البشرية مع “شباب هتلر” و”طلائع صدام” و”أشبال المهدي”، حيث تتحول الطفولة إلى وقود أيديولوجي.
ومهما بلغ حجم الحشود وكَثُرَت الأناشيد، تبقى الحقيقة واضحة: هذه الحشود لا تُخيف اللبنانيين بعد الآن. إن زمن الترهيب الجَماعي قد انتهى وولّى. يمكن لحزب الله أن يملأ الملاعب بالزي الموحد، وأن يرفع صوره وراياته، لكنّه لا يستطيع أن يغيّر واقعًا واحدًا: أن أجيال “الشهداء” التي يُعدّها الحزب للمستقبل مشرّدة عن قراها، وتعيش في خوفٍ وفقـرٍ وتعبئةٍ لا نهاية لها.
إن استعراضات القوة لا تصنع شرعية، والمجتمع الذي يقدّس الموت لا يستطيع أن يبني وطنًا مفعمًا بالحياة السليمة. أما العقيدة التي تُحوّل الأطفال إلى رموز “استشهاد” فهي تزرع الخوف في نفوسهم لا الإيمان. ولم يعد اللبنانيون، في بلدٍ أنهكته الحروب، يهابون مظاهر السلاح ولا طبول الحرب، لأنهم اكتشفوا أن هذا السلاح الذي وُصف بالمقدّس لم يحرّر أرضًا، بل قيّد وطنًا.
لم يكن استعراض مدينة كميل شمعون عملًا بريئًا، بل محاولة جديدة لإقناع اللبنانيين بأن الحزب ما زال قادرًا على فرض هيبته. لكن في الحقيقة، ما ظهر هو العجز ذاته: عجز عن الفعل والإقناع واستعادة المبادرة. والأهم أنّ الحشد لا يُكسب شرعية، فحتى حين يُقيم فنانٌ كعمرو دياب حفلاً ضخمًا في بيروت يجذب عشرات الآلاف من المعجبين، لا يعني ذلك أنّ له الحق في توجيه الناس أو التحكّم بمصيرهم. الحشد الفني يحتفي، على الأقل، بالحياة والفرح، بينما الحشد العقائدي يوظّف الجماهير في مشاريع انتحارية أثبتت فشلها، ويحوّل الأفراد إلى أرقام في مسيرة الموت.
قد تُشَكل الحشود مشهدية ما، لكنها لا تخلق وطنًا، ولا تبني دولة. من يربّي أبناءه على تقديس السلاح لا يقدر أن ينتج مواطنين أحرارًا، ومن يرفع راية الحزب فوق راية الوطن يزرع بذور الانقسام لا الوحدة.
الكشاف الحقيقي يؤمن بأن خدمته للوطن هي أسمى وسام، وأن شرفه في أنشطته لا في شعاراته. أما ما جرى في مدينة كميل شمعون فكان نقيض ذلك تمامًا: إنه اغتيال لروح الكشافة وتحويل القيم إلى أدوات تعبئة. لقد حاول الحزب أن يقترض رمزية الكشاف ليمنح مشروعه طابعًا أخلاقيًا، لكنه فشل لأن الأخلاق لا تُستعار.
أما الوطن الذي نطمح إليه فهو وطنٌ يتّسع للجميع، يستطيع أن يتحمّل عرضًا فاشيًا تحت راية الحركة الكشفية، كما يستطيع أن يتقبّل مجموعة من الناس تؤمن بالكائنات الفضائية كبُناةٍ لقلعة بعلبك، طالما أن كل تلك العراضات تبقى تحت سقف الدستور والقانون. لبنان ليس دولة رأيٍ واحد، بل هو وطن الحرية والمسؤوليات.
من يثق بشعبه لا يحتاج أن يملأ الملاعب بالأطفال، ولا أن يختبئ خلف “أجيال السيد” لتغطية فشل مشروعه السياسي. ومن يؤمن بلبنان، يربّي أبناءه على الحرية، لا على الطاعة الفاقدة للبصر والبصيرة، وعلى خدمة الوطن لا على الفداء الأعمى، وعلى الشرف لا على الولاء.
مهما عَلَت الأناشيد وارتفعت الرايات، تبقى الحقيقة ثابتة: لبنان ليس مسرحًا للطاعة، بل وطن الكرامات. أما نصر الله، بكل رمزيته ومكانته السابقة، فبات من الماضي، فيما جيل “الشهداء المستقبليين” يعيش في المنفى وينتابه الخذلان؛ إنه ضحية في وطنٍ هو بأمس الحاجة لقيام دولته، وليس بطلاً في ساحة المعسكرات.