من بكتيريا #الماء إلى بكتيريا #الانقسام
عندما يصبح تطبيق القانون انقسامًا وفضيحة بدل أن يكون فخرًا ودرسًا في المواطنة
عندما يصبح تطبيق #القانون انقسامًا وفضيحة بدل أن يكون فخرًا ودرسًا في #المواطنة
–
بقلم كوثر شيا
@kchaya
في بلدٍ كلبنان، اعتاد الناس أن يثوروا على الدولة حين تقصّر، لكنهم أيضًا يثورون عليها حين تطبّق القانون!
قضية مياه تنورين كشفت لنا ليس فقط عن التلوث الجرثومي في المياه، بل عن تلوث أخطر في الذهنية العامة — ذهنية لا تحتمل أن تُحاسَب، ولا تتقبل أن تُضبط وفق القانون، بل تتسرّع في الاتهام والانقسام قبل أن تفهم الحقائق.
عندما اتخذت وزارة الصحة، بتكليف من وزير الزراعة، قرارًا احترازيًا بإيقاف مؤقت لتعبئة المياه بعد ظهور بكتيريا في بعض العينات، كان الإجراء طبيعيًا جدًا من منظور علمي وصحي.
هو تطبيق واضح للمادة القانونية التي تلزم الوزارة بالتدخّل عند أي خطر على الصحة العامة، لحين التحقق واستكمال الفحوص.
لكن ما جرى بعد ذلك هو موجة من التحريض والتسييس والانقسام فاقت كل منطق — وكأن تطبيق القانون جريمة وطنية، وكأن حماية صحة الناس مؤامرة على الصناعة الوطنية!
وزير الصحة ركان ناصر الدين أوضح الحقائق بكل شفافية: تم سحب عينات من السوق، وثلاث منها أظهرت وجود بكتيريا، فتم وقف الإنتاج مؤقتًا لحين استكمال التحقيق، ثم أُعيد الفحص عبر مختبرات عدة، من بينها الجامعة الأميركية ومستشفى ضهر الباشق، وبناءً على النتائج الجديدة التي أثبتت سلامة العينات، أُعيد السماح بالإنتاج.
هذا ما يسمى في أي دولة محترمة إجراء علميًا وقائيًا سليمًا — لا هو استهداف، ولا هو عقوبة.
هو ببساطة الدولة تعمل.
لكن ما زلنا كشعب، للأسف، نعيش في ذهنية الانقسام، نقرأ القرارات بعين الانتماء لا بعين المواطنة.
كل شيء نُخضعه للتسييس: الدواء، الماء، الخبز، الكهرباء، وحتى الأكسجين.
ونسأل بعدها: لماذا لا تقوم دولة؟ لأننا ببساطة لا نتركها تقوم.
لقد آن الأوان لنعترف أن القانون هو الذي يوحّدنا، لا الحزب ولا الطائفة ولا الزعيم.
القانون هو لغة الوطن الحقيقية، والدستور هو مرجعيّتنا الوحيدة.
وإذا لم نتعلّم من هذه الأزمة أن احترام القرارات الرسمية ليس ضعفًا بل وعيًا، فسنبقى أسرى الفوضى المزمنة التي جعلت لبنان يعيش بلا دولة فعلية منذ عقود.
على المواطن أن يدرك أن الوزير، أي وزير، ليس موظفًا في خدمة الرأي العام، بل منفّذ لسياسات الدولة ومؤتمن على القانون.
وظيفته أن يحمي الصحة العامة، لا أن يرضي المزاج الشعبي.
وفي المقابل، على المواطن أن يتصرّف كمواطن مسؤول، يراقب ويطالب بالمحاسبة، لكن لا يشيطن مؤسسات الدولة كلما تحركت بضمير.
ما حدث في قضية تنورين يجب أن يكون درسًا وطنيًا لا مادة للانقسام.
درسًا بأن الدولة عندما تعمل بشفافية، علينا أن نساندها، لا أن نحاربها.
درسًا بأن الوزير عندما يطبّق القانون، لا يُسأل “لمن ينتمي”، بل يُشكر لأنه احترم الدستور الذي نحتمي به جميعًا.
درسًا بأن المواطنة تبدأ من احترام القرار العام، لا من التمرّد عليه باسم الحرية.
نحن نطالب بدولة قانون، لكننا أول من يكسر القانون عندما لا يوافق مزاجنا!
نريد إصلاحًا، لكننا نرفض أول محاولة جديّة لتطبيق النظام.
نريد مؤسسات قوية، لكننا نضعفها عندما تجرؤ على ممارسة سلطتها.
وهنا جوهر المشكلة: لبنان لا ينقصه القوانين، بل ينقصه مواطنون يطبّقونها.
إن الخروج من هذا الانقسام لا يكون بالتنظير، بل بتبنّي وعي جديد — وعي يُعيد احترام المؤسسات، ويفصل بين القرار التقني والولاء السياسي، ويؤمن أن القانون هو الملح الذي يحفظ الأرض من الفساد.
فلنتعلّم أن الخضوع للقانون ليس خضوعًا للسلطة، بل خضوعًا للوطن، لأن الدولة ليست شخصًا، بل عقدًا اجتماعيًا يربطنا جميعًا تحت مظلة الدستور.
ليكن ما حدث في قضية تنورين بداية إصلاح، لا مناسبة للجدال.
وليتنا نصل إلى اليوم الذي تصبح فيه عبارة “تطبيق القانون” خبرًا عاديًا لا حدثًا استثنائيًا في لبنان.