#لبنانيّون وفلسطينيّون : من “أبو نضال” إلى “#حماس”

بقلم هشام بو ناصيف

أطلقت إسرائيل سراح حوالى ألفي أسير فلسطيني في سجونها نتيجة اتفاقيّة وقف إطلاق النار بينها و”حماس”. الرقم كبير، وفرحة الأسرى بالحريّة مفهومة. في المقابل، ما ليس مفهومًا حتى الساعة هو هذا: لماذا لم تشمل الاتفاقيّة الأسرى اللبنانيّين من عناصر “حزب الله” الذين قبضت الدولة العبريّة عليهم بالحرب الأخيرة؟ سواء حاولت “حماس” إدراج هؤلاء بالصفقة وفشلت، أو أنها لم تكلّف نفسها عناء المحاولة، تبقى النتيجة واحدة: بنهاية مسار كلّف لبنان عشرات آلاف القتلى والجرحى من أجل إسناد “حماس” في غزّة، أطلقت اسرائيل سراح ألفي سجين، ولا لبناني واحد بينهم. ليعذرنا أصحاب “القضيّة المركزيّة” لو لاحظنا ما يلي: ساعة المعركة، لبنان رأس حربة الإسناد؛ وساعة المفاوضات، الاهتمام الفلسطيني بالأسرى اللبنانيّين معدوم.

لا جديد تحت شمس ضعف الحساسيّة الفلسطينيّة تجاه لبنان، أليس كذلك؟ فكّر بحسابات صبري البنّا المعروف بـ “أبو نضال” قبيل الاجتياح الإسرائيلي لبلادنا عام 1982. لم يكن سرًّا آنذاك أنّ حكومة مناحيم بيغن في إسرائيل فهمت التسوية التي رعاها المبعوث الأميركي إلى لبنان فيليب حبيب بعد حرب زحلة عام 1981 كهدنة بين حربين. عبد الحليم خدّام التقى زعماء الفلسطينيّين في بيروت قبل الاجتياح وحذرهم من التصعيد ضدّ إسرائيل لأنّ نوايا الثلاثي بيغن – شارون – إيتان كانت واضحة. بدورهم، أوصل الأميركيّون الرسالة عينها إلى عرفات عبر روبرت ايمز، من وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة، الذي قتل لاحقًا بانفجار السفارة الأميركيّة في بيروت. كان عرفات يعلم أنّ عاصفة كبيرة تتجه صوبه، وهدّأ الجبهات أملًا بتفاديها. “أبو نضال” كان يعلم أيضًا. باستثناء أنّ “أبو نضال” كان يكره عرفات ويرغب بالقضاء عليه ومنظمة التحرير. تاليًا، أطلق عناصر “أبو نضال” النار على السفير الإسرائليي في لندن، شلومو أرغوف، مطلع حزيران 1982، ما أعطى الإسرائيليّين ذريعة اجتياح لبنان الذي بدأ بعد ذلك بأيّام. وقد كان لـ “أبو نضال” ما أراد: اقتلعت إسرائيل “فتح” من لبنان، وخرج عرفات مذلولًا إلى المنفى في تونس. ولكن ثمن انتصار “أبو نضال” على “أبو عمّار” كان دمار بيروت، ومقتل وجرح عشرات آلاف اللبنانيّين بالاجتياح الاسرائيلي آنذاك. وتمامًا كما “حماس” اليوم، لا شيء يدلّ على أن “أبو نضال” اكترث آنذاك لمصلحة اللبنانيّين.

ولا صدّام حسين اكترث. ذلك أن “أبو نضال” كان فعلًا كما وصفه باتريك سيل بكتابه الشهير عنه “بندقيّة للإيجار”. المخابرات العراقيّة آنذاك استأجرته. ومعروف أنّ صدّام حسين كان يكره حافظ الأسد، وأن كره الرئيس العراقي للرئيس السوري زاد بعد انحياز الأسد إلى إيران بحربها مع العراق. تاليًا، كان النظام العراقي بدوره راغبًا بالاجتياح الإسرائيلي للبنان، لأن تقدّم جيش الدفاع صوب بيروت كان سيضع رجال الأسد أمام خيارين أحلاهما مرّ: لو تجنب السوريّون القتال، وتركوا شارون يدمّر الفلسطينيّين من موقع المتفرّج – وهذا ما فعله السوريّون فعلًا في أيّام الاجتياح الأولى – سيخسر الأسد مصداقيّته كزعيم قومي عربي منافس لصدّام على شرعيّة البعث؛ وإن لم يتجنّب السوريّون القتال، سيتعرّضون للإذلال على يد الجيش الإسرائيلي، وهو ما حدث لاحقًا. باختصار، لم يسقط المدنيّون اللبنانيّون بالحرب آنذاك على خلفيّة حسابات “أبو نضال” بمواجهة “أبو عمّار” وحسب، بل أيضًا نتيجة رغبة صدّام حسين بتمريغ أنف حافظ الأسد بالتراب. هذا هو التاريخ الحقيقي لبلادنا مع الأنظمة العربيّة “التقدّميّة” الغرّاء.

ماذا عن ياسر عرفات، بكلّ هذا؟ كانت “فتح” تقيم مراكزها وتخزن سلاحها في الأحياء السكنيّة ببيروت، ثمّ تعمد إلى استعمال أرقام ضحايا الضربات الإسرائيليّة ضدّ الفلسطينيّين بالعاصمة اللبنانيّة لتأليب الرأي العام العالمي على إسرائيل. والحال أن هذه الأرقام كانت مرتفعة جدًّا، وأن ماكينة “فتح” الدعائيّة استخدمتها بشكل فعّال. سقط ثلاثمئة مدني في لبنان بيوم واحد من القصف الإسرائيلي في 17 تمّوز، 1981؛ وارتفع الرقم إلى خمسمئة قبل نهاية ذلك الشهر. بدأ الرأي العام العالمي مذّاك يرى الدولة اليهوديّة من خارج منظور الهولوكوست. ولكن ثمن الانتصار التكتي الفلسطيني كلّف مئات اللبنانيّين حياتهم بأسبوعين.

كان عرفات يعلم لمّا جاء الاجتياح أنّه سيخرج من بيروت. جورج حبش كان طبعًا يثرثر ببلاهة عن الانتصار وتحويل العاصمة اللبنانيّة إلى ستالينغراد ثانية، ولكن عرفات كان أذكى منه – وما كان هذا صعبًا. لماذا صمد عرفات وأطال عمر الحصار الإسرائيلي لبيروت إذا بدل الخروج السريع؟ الجواب أنّ الزعيم الفلسطيني كان يأمل في أن يقبض من الأميركيّين اعترافًا بحركة “فتح” كثمن خروجه من العاصمة اللبنانيّة. راهن عرفات أيضًا على رعاية أميركيّة لحوار بين “فتح” وإسرائيل، لا سيّما أنّ خطوط عرفات مع روبرت ايمز والمخابرات الأميركيّة ظلّت مفتوحة طوال الحصار. وبانتظار تحقيق ما لم يتحقق، تخندق عرفات ببيروت، بينما دكّها الإسرائيليّون. مجدّدًا، دفع مئات القتلى والجرحى اللبنانيّيون ثمن رهانات فلسطينيّة. وبمقدار ما كان اللبنانيّون ضحايا إسرائيل ذلك العام، كانوا أيضًا ضحايا عرفات الساعي لتسجيل نقاط سياسيّة فوق أشلائهم. هم ماتوا، وهو لم يفعل.

هذه بعض من حكايا اللبنانيّين مع “القضيّة المركزيّة” وأبطالها الأشاوس، من “أبو نضال”، إلى “حماس”، مرورًا طبعًا بياسر عرفات. منذ مدّة، لم أعد أنتظر أن تفهم الهويّات العابرة للحدود أنّ مصلحتها ليست مع هؤلاء، ولا طبعًا مع ملالي ايران، وأنّ “الانعزاليّين” و”اليمينيّين” ليسوا كذلك، بل هم لبنانيّون أقصى طموحهم أن يعيشوا حياة مستقرّة في بلادهم، ويرفضون تاليًا استخدامهم كبيادق بلعبة قاتلة لا مصلحة لهم بالتورّط فيها. قناعتي أن من لم يفهم إلى الساعة، لن يفهم. ومن غير المنطقي، أو العادل، أن يظلّ مصير من فهم فعلًا معلّقًا بمصير من هيهات أن يفهم.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com