اغتيال السيد حسن وعلامات الظهور

نصرالله حجب الصدر ويبتلع "أمل" بعد بري

بقلم نجم الهاشم

لا يستطيع “حزب الله” الإفلات من قبضة تداعيات اغتيال أمينه العام السيّد حسن نصرالله. كل الخسارات والاغتيالات الأخرى لا تقترب من حجم هذه الخسارة. يبقى السيّد حسن هو عنوان “الحزب” في صعوده وفي صناعة تاريخه وصورته وحضوره إلى حد التصاق صورته وخاتمه وإصبعه وعباءته وعمامته بصورة “الحزب” في كل تفاصيله. ولذلك يبقى غيابه الصاعق عنوان تراجعه وآلامه بحيث صار أسير هذا الغياب الذي لا تعوّضه حشود البيئة الحاضنة، لا في مواكب التشييع ولا في استعراض كشافة المهدي. يُستحضَر السيّد حسن بالصور والأناشيد، ولكن في النهاية يطلّ الشيخ نعيم قاسم على الحشد ليحكي عن “شهيدنا الأقدس” كما يصفه.

نقل السيّد حسن نصرالله “حزب الله” والبيئة الشيعية في لبنان إلى عالم خاص له حيثياته وقوته الذاتية ومداه الديني والتاريخي، وسرديته الإيمانية وتقاليده الاجتماعية، وخطاباته الانتظارية لمجيء الإمام المهدي المنتظر. هي حالة من الصعب أن يخرج منها الشيعة في لبنان والعالم لأنّها تحتاج إلى زمن آخر وعبور جديد وقيادة دينية سياسية تستطيع أن تقود عملية العودة، وهي من دون شكّ عودة صعبة بمقاييس الزمن لأنّها تتعلّق أولًا وأخيرًا بمقاييس الإيمان التي من الصعب نقضُها وتبديلُها وتعديلُها وتغييرُها. ولذلك تبدو كلّ دعوات الشيعة للعودة إلى لبنان كأنّها صوت في صحراء واسعة لا تجدُ من يسمعها خصوصًا في هذا التماهي بين حالة الوجود على الأرض وحالة الإيمان والعقائد الآتية من السماء.

بين الأولياء الشيعة

بين السماء والأرض تضيع النداءات وتحضر الدعوات للاندماج بالفكرة التي تأسر الشيعة منذ بدأت مسيرتهم في التاريخ قبل 1400 عام تقريبًا، والتي جاء من يُحييها ويدفعهم إليها في طريق لا عودة عنها ومنها. بدأت رحلة الشيعة مع انتظارات عودة الإمام المهدي بانتصار الثورة الإسلامية في إيران وعودة الإمام الخميني مجدّدًا ومؤسسا عهد ولاية الفقيه، وأكملت هذه المسيرة بتكريس هذا الفكر الديني ومحاولة تصدير الثورة إلى الدول المجاورة وكان بعض الشيعة في لبنان أول من تلقف هذه الدعوة مع تأسيس “حزب الله”. وجاءت ولاية السيد حسن نصرالله لتكرِّس هذه التبعية وهذا الحضور وهذه الدعوة الإلهية إلى الحدّ الذي صار فيه في مرتبة عالية بين الأولياء الشيعة. ولذلك اعتبر كثيرون من مريديه أن حضوره كان من علامات الظهور وأن اغتياله الصاعق كان أيضًا من هذه العلامات. ولذلك سارع “الحزب” إلى إقامة المرقد الخاص به في الضاحية الجنوبية لينضمّ إلى سائر مراقد الأئمة الشيعة الكبار، من دون أن يوازيَه في الأهمية التي اكتسبها وأُسبِغت عليه، أيّ رجل دين شيعي في لبنان.

بين جعجع ونصرالله

يقف “حزب الله” بكل تاريخه على خطّ مناقض لتاريخ “القوات اللبنانية”. منذ انطلاقته لم يناقض “القوات” فقط، بل شمل في مواقفه المبدئية الدينية المواقع المارونية السياسية والدينية ومن بينها الجيش اللبناني وبكركي ورئاسة الجمهورية. لم يلتقِ رئيس حزب “القوات” سمير جعجع وأمين عام “حزب الله” وجهًا لوجه إلّا عام 2006 في جلسات الحوار التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه بري بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. الحزبان كانا وبقيا في خطّين متواجهين. ومع ذلك كان رئيس “القوات” يوجه في مناسبات كثيرة نداءات إلى “حزب الله” للعودة إلى لبنانيته والخروج من الحروب التي يخوضها ويزجّ الشيعة اللبنانيين فيها. آخر هذه النداءات كان في قداس شهداء “المقاومة اللبنانية” في 7 ايلول الماضي في معراب محاولًا طمأنة الشيعة بأنّ الدولة وحدها تحميهم وتحمي الجميع داعيًا “الحزب” إلى تسليم سلاحه والعودة إلى لغة العقل. قال “تعقّلوا وشاوروا وتذكّروا كلام الإمام عليّ: “من شاور الرّجال شاركها في عقولها، وأعقل الناس من أضاف عقول الناس على عقله”… قال أيضًا “إن الشيعة لم يأتوا إلى لبنان معكم، ومن المؤكّد أنهم لن يذهبوا معكم… آن الأوان كي يستفيق “حزب الله” من أوهامه ويترك بيئته والشيعة يعيشون مثل سائر اللّبنانيّين…”. جعجع استشهد بوصايا الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين: “أوصي أبنائي إخواني الشيعة الإماميّة في كلّ وطن من أوطانهم، وفي كلّ مجتمع من مجتمعاتهم، أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم، وألا يميّزوا أنفسهم بأيّ تمييز خاصّ، وألا يخترعوا لأنفسهم مشروعًا خاصًّا يميّزهم عن غيرهم…”. مضيفًا: “أنتم مكوّن أساسيّ من المكوّنات اللّبنانيّة المؤسّسة للكيان اللّبنانيّ الذي أكّد عليه الإمام موسى الصّدر وطنًا نهائيًّا”…

غاب الإمام وحضر السيّد

سألت سياسيًا شيعيًا، كان ممن رافقوا مرحلة الإمام موسى الصدر والنهضة التي أحدثها في الواقع الشيعي في لبنان، عن جدوى ووقع هذه النداءات بين جماعة “الحزب وجمهوره”. قال: إنسَ هذا الموضوع. الشيعة يعيشون اليوم في عصر السيّد حسن نصرالله. السيّد حسن حجب ومحا وأنهى تقريبًا السيّد موسى الصدر. الشيعة لا يعرفون اليوم السيّد موسى إلّا من خلال ما يذكره البعض عنه، أو من خلال الاحتفال السنوي الذي تقيمه “حركة أمل” في كل 31 آب في ذكرى اختفائه في ليبيا. لا تنسَ أنّ السيد موسى عاش في لبنان بين العامين 1958 و1978. إنّها مرحلة امتدّت عشرين عامًا. صحيح أنّه أسّس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ونهض بالطائفة وجعل لها كيانًا دينيًا مستقلًّا وأسّس “حركة أمل”، ولكن لا تنسَ أنّ اسمها “أفواج المقاومة اللبنانية” وكانت في الأساس “حركة المحرومين”. ولا تنسَ أنّ الإمام غاب منذ 47 عامًا وأنّ “حزب الله” وُجِدَ وتأسّس بعد غيابه بخمسة أعوام، وأنّ السيّد حسن نصرالله حضر في وجدان الشيعة في لبنان منذ أربعين عامًا في “الحزب”، ومنذ 32 عامًا في الأمانة العامة. أربعة أجيال عاشت في ظلّ حضور السيّد حسن وفي غياب السيّد موسى. الشيعة اليوم لا يتذكّرون إلّا السيّد حسن. لا يوجد أي مقام للسيد موسى ولا يوجد أي مزار يزورونه. غاب الإمام الأول للشيعة في لبنان وحضر السيّد حسن. أعطى السيّد حسن دفعًا كبيرًا للشيعة ومدّهم بكلّ عناصر القوة السياسية والعسكرية والدينية. من الصعب أن يخرجوا من تحت عباءته في هذا الزمن. إنّها مسألة وقت وأجيال وقادة. حتى “حركة أمل” التي أسّسها الصدر لا تشعر اليوم أنّها موجودة إلّا من خلال رئيسها نبيه بري وفي مناسبات قليلة. ماذا سيحلّ بها بعد غياب الرئيس بري؟ رح يقشّها “الحزب” إذا بقي كما هو. قد تبقى ولكنها لن تكون كما هي اليوم على رغم ضعفها. قد تتوزّع عدة أقسام ولن تكون هناك قيادة بمستوى بري تستطيع أن تحافظ عليها وتجمعها وتملأ فراغه. في أفصل الأحوال قد يبقى جسم منها واسم. ولكن بقوة حضوره سيتمكّن “الحزب” من ابتلاعها كما ابتلع الكثير من قياداتها منذ تأسيسه”.

سلام يا مهدي

كل ذلك يبقى مرتبطًا بمدى حضور “الحزب” السياسي والديني وارتباطه بإيران وببقاء نظام ولاية الفقيه فيها. حتى يتغيّر الزمن سيبقى السيّد حسن نصرالله الحاضر الأكبر وربّما الأوحد في ذاكرة الأجيال الشيعية الحاضرة، أجيال السيّد وكشافة المهدي التي أحضرها “الحزب” إلى مدينة كميل شمعون الرياضية ليقول إنه صنع أكبر حشد كشفي في التاريخ وفي العالم، كما صنع أكبر حشد نسبة إلى عدد السكان في مناسبة تشييع نصرالله والسيّد هاشم صفي الدين”.

إنّا على العهد” كان الشعار الذي رفعه “الحزب” بعد اغتيال نصرالله ويكرّره في كل المناسبات. هي عبارة من نشيد الإمام المهدي “سلام يا مهدي” الذي يتربّى عليه أطفال الشيعة اليوم في مدارسهم ومنازلهم ومناسباتهم الخاصة والعامة بانتظار خيارات أخرى لا يعرف أحد متى يحين أوانها في ظل محاولة إسباغ هالة التقديس على السيّد حسن. وهي مرتبة تصعب العودة عنها ومنها.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com