من لقاء بادوفا إلى خيم الثورة في بيروت وطرابلس

بقلم بسّام سنو – خاص بوابة بيروت

في خضم التحوّلات العميقة التي شهدها لبنان منذ تشرين الأول 2019، برزت الثورة اللبنانية كمحطة فاصلة في الوعي الجماعي، حيث تلاقت أصوات الناس من مختلف المناطق على مطلبٍ واحد: التغيير الحقيقي. من اللقاءات الأولى في المقاهي والفنادق إلى نصب الخيم في الساحات، تكوّنت حكاية وطنٍ يبحث عن نفسه وسط رماد الفساد والانهيار. وفي هذا السياق، يروي الكاتب بسام سنّو في مقاله “من لقاء بادوفا إلى خيم الثورة في بيروت وطرابلس” فصولًا من تلك التجربة التي حملت الحلم، الأمل، والوجع، في مسيرةٍ أرادت أن تُعيد المعنى للوطن والمواطنة.


كانت بيروت تغلي، وقلوب الناس تخفق بإيقاع جديد. الهتافات التي بدأت في رياض الصلح لم تكن سوى البداية… وكنا نعلم أن لحظة الحقيقة تقترب، وأن الموجة لا يجب أن تهدأ.

في أحد صباحات تشرين، عدت إلى فندق بادوفا في سن الفيل. كان اللقاء الثاني لنا، لكنه لم يكن عاديًا. هناك، اجتمعنا مجددًا، مجموعة من المثقفين والثوّار، نحمل الحماس ذاته، لكننا هذه المرة أكثر وعيًا بأن ما بدأناه في الشارع يجب أن يُترجم إلى فعل مستمر. كنا بحاجة إلى أكثر من مجرد تظاهر… كنا بحاجة إلى حياة داخل الساحات.

تدفّقت الأفكار، وتوزّعت الأدوار. من بين الحضور، برزت كوثر شيا، تلك الصبية القادمة من الجبل، بثوب الثورة وشغف الأطفال. اقترحت أن تُنصب خيمة للرسم على وجوه الصغار، “لأن الثورة يجب أن تفرحهم أيضًا”، قالتها بابتسامة فيها حزمٌ لا يُكسر.

ثم جاء الدور لأهالي بيروت. أرادوا خيمتهم الخاصة، مركزًا للحوار، للتثقيف، للنقاش. وهكذا كانت خيمة “ثوار بيروت” في قلب ساحة الشهداء، مقابل جامع الأمين، خيمة لا تشبه غيرها. نصبها الشيخ جهاد الأمين، رحمه الله، مع نخبة من أبناء المدينة. كنّا نلتقي هناك، نتبادل الرأي، نخطط، نحلم. وكانت تلك الخيمة شاهدة على لحظات لا تُنسى.

في إحدى الأمسيات، اجتمعنا في مطعم صغير للفول على الروشة. هناك، وسط هدير البحر، تعرّفت على وجوه مناضلين حقيقيين من أهل بيروت، أناس قرّروا أن يسيروا في طريق التغيير حتى النهاية، بعيدًا عن الاستعراض أو الطموحات الشخصية.

الزخم في الساحات لم يكن كافيًا. احتجنا إلى هزّ أماكن أخرى، إلى نقل الثورة إلى قلوب الناس لا فقط إلى الشاشات. فجاء القرار بتنظيم مظاهرة في شارع الحمراء. الحمراء… شريان العاصمة ونبضها الثقافي والسياسي. وبرغم التوتر، تحرّكت الجموع، بدعم أمني ضمني، ورفعت شعاراتها في قلب الشارع. مظاهرة نظيفة، صادقة، لم تمسّ بالثوابت، بل صوّبت على الفساد بكل جرأة، دون أن تنزلق إلى الاصطفاف الطائفي أو استهداف مقام رئاسة الحكومة السنية.

وفي الشمال، كانت طرابلس تتوهّج. ما رأيناه هناك لم يكن مجرد احتجاج، بل مشهد حضاري نادر. نُصبت الخيم في ساحة النور، أو كما يسميها البعض “ساحة العيد”، وبرز اسم الدكتور رامي كنج، النائب المنتخب، كأحد أبرز المنظمين والداعمين.

كان مشهد طرابلس مختلفًا… منسّقًا، موحّدًا، وكأنّ المدينة قرّرت أن تُعيد رسم صورتها بنفسها. هذا الانضباط، وهذه الوحدة، جعلت الإعلام يمنحها لقبًا لم يكن مجاملة، بل اعترافًا: “عروسة الثورة.”

من فندق صغير في سن الفيل، إلى خيمة في وسط بيروت، إلى ساحة ملتهبة في طرابلس… كانت الثورة تنتقل، تنمو، تتحوّل من هتاف إلى مشروع، ومن غضب إلى أمل.

ولم نكن نعلم أن الأهم لم يأتِ بعد…

يتبع…

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com