بقلم بسام سنو – خاص بوابة بيروت
في لحظةٍ من لحظات الوطن التي لا تُنسى، ومع تزايد أعداد المتظاهرين وإيمانهم العميق بأن زمن الإفلات من العقاب قد ولى، وأن على السياسي أن يرحل، ويُحاسب، بدأت ولادة مشهد غير مألوف في الشوارع والساحات… مشهد ثوريّ لم تعرفه الجمهورية من قبل.
من رحم الغضب الشعبي ووجع الناس، خرجت خيمٌ تحمل وجع المناطق كلها. خيمةٌ من بعلبك تنبض بالأمل، وخيمةٌ من النبطية تتحدى الصمت، وخيمٌ نُصبت لاهالي بيروت، كأنها قلب الوطن النابض. خيمةٌ للمتقاعدين تطالب بكرامة الحياة، وأخرى لقضية المودعين الذين فقدوا جنى أعمارهم خلف أبواب المصارف. خيمةٌ تنادي بحق الجنسية والهوية والكرامة ، وأخرى تبحث في مصير المفقودين، وخيمٌ أُقيمت لتثقيف طلاب الجامعات ورفع الوعي الوطني، من بينها خيمة حملت بصمة الشهيد لقمان سليم، صاحب الفكر الحرّ الذي آمن بأن لا دولة من دون حرية ولا وطن من دون مواطنة.
لكنّ هذا الوعي الوليد، لم يُرضِ أحزاب السلطة، لا سيما حزبًا آمن بشعار: “سلاحنا مقابل فسادكم”. رأى في هذه الحركة الثقافية خطرًا وجوديًا عليه، فتحالفت أطراف المنظومة على هدف واحد: إنهاء الثورة بكل الوسائل الممكنة.
بدأوا بالترهيب، فهُدِّمت الخيم في الظلام. ومرّةً بالتخوين، وأخرى بإحراق رمز الثورة، تلك القبضة التي كانت تعانق السماء في الساحات. ومع الوقت، تراجع الأمان، وظهرت التظاهرات المضادة. من الخندق الغميق انطلقت موجات شغبٍ راكبةً دراجاتٍ نارية، لتهاجم المتظاهرين وتحاول إسكات صوتهم.
وقف الجيش اللبناني موقف الحياد. نَصَبَ الحواجز النقالة في ساحة الشهداء، وساحة جامع محمد الأمين، وساحة رياض الصلح، وما بين جسر الرينغ والخندق الغميق، محاولًا منع الصدام. هذا الموقف أعاد الثقة للناس، شعروا أن الجيش بقيادة العماد جوزيف عون، ليس طرفًا في الصراع، بل ضامنًا للسلم الأهلي.
في الجنوب، وضع الحراك الشعبي خيمًا في النبطية وصيدا وصور. وفي ساحة صور وُضعت خيم بقيادة ثوار كبلال مهدي وفي ساحة صيدا وضعت خيم من الثوار الذي تعرفت عليهن محمد البابا وفي النبطية وضعت خيم متواضعة متحدّين سلطة الأحزاب وتاريخ الخوف. خرج الناس في صور، لأول مرة، إلى الشارع في مظاهرة مشهودة، شعروا أنهم أخيرًا جزءٌ من مشهد التغيير.
وفي الجبل، نصبت الخيم على أطراف عاليه والعبيدية وراشيا، في مشهدٍ لم تعرفه الجغرافيا السياسية من قبل، حيث توحدت المناطق الجبلية من دون مرجعية طائفية أو حزبية.
في طرابلس، من معرض رشيد كرامي الدولي، خرجت تظاهرة جمعت المدينة بكل أطيافها. وفي عكار، كلها لحقت بالركب، ترفع الصوت ذاته: “كلن يعني كلن”. أما في جل الديب، فقد كانت التظاهرات مميزة بطابعها الوطني، حيث خرج أبناء الأحزاب المسيحية ذاتها يواجهون سلطاتهم، في لحظة نادرة من كسر التبعية.
ووصلت الثورة إلى عرين الرئاسة، إلى باحة قصر بعبدا. تظاهر الآلاف ضد حكم ميشال عون، ليردّ أنصاره في اليوم التالي بوقفة داعمة له، جسدت انقسامًا عميقًا في الوجدان اللبناني.
لكن، ورغم التباينات، كانت تلك الأيام فريدة. أحسّ اللبنانيون، ولو للحظة، أن الوطن موحدٌ في وجه الفساد، وأنّ الحلم ممكن، وأنّ صوتهم قادر على إحداث الفرق.
تلك ليست مجرد خيم نُصبت، بل كانت أوتادًا في ذاكرة وطن… وإن لم تؤتِ ثمارها بعد، فهي لم تُقتلع من القلب والقضية.
يتبع…