بقلم بلال مهدي
بعد أكثر من خمسين يومًا من الغياب الغامض، عاد المرشد الإيراني علي خامنئي إلى الواجهة بخطابٍ بدا كأنه محاولة لترميم صورةٍ متصدعة أكثر مما هو مبادرة قيادةٍ واثقة. فالرجل الذي يُفترض أن يكون مرجع التوجيه في لحظات الانهيار، ظهر هذه المرّة في موقع الدفاع، وكأنّ النظام الذي صنعه منذ عقود بدأ ينهار من داخله.
الخطاب الذي ألقاه خامنئي لم يحمل جديدًا سوى تأكيده المكرر على “تماسك النظام” و”صمود الشعب”، وهما عبارتان باتتا في الوعي الإيراني مرادفتين للإنكار والهروب من الواقع. فلا إصلاحات مطروحة، ولا إجراءات ملموسة، ولا حتى إشارات إلى معالجة الانهيار الاقتصادي أو الموجة القمعية التي تحوّلت إلى نهج يومي في البلاد، حيث تتوالى الإعدامات بمعدلٍ مرعب وتُقمع الاحتجاجات بوحشية مفرطة.
غياب خامنئي الطويل أثار موجة تكهنات عن وضعه الصحي ومستقبل القيادة في طهران، فيما جاءت عودته لتعمّق الغموض أكثر، لا لتبدّده. فقد بدا الخطاب أشبه بـ بيان طمأنةٍ داخلية مرتبك، يخاطب الحرس الثوري أكثر مما يخاطب الشعب، ويعكس خشية واضحة من تصدّع البنية الأمنية والسياسية للنظام الذي يعيش مرحلة اهتزاز وجودي.
يرى مراقبون أنّ الظهور المتأخر بهذا الشكل يوحي بأنّ النظام الإيراني يعيش عزلة مزدوجة: داخلية، بسبب الغضب الشعبي المتصاعد في المدن الإيرانية الكبرى، وخارجية، نتيجة العقوبات والضغوط الدولية التي جعلت طهران أكثر هشاشة على الساحة الإقليمية. أما الخطاب نفسه، فقد خلا من أي رؤية استراتيجية، مكتفيًا بتكرار شعارات تعبويّة فقدت معناها أمام واقعٍ اقتصادي مأساوي وفسادٍ مستشري وانقسامٍ اجتماعي عميق.
في العمق، يمكن قراءة هذا الخطاب كدليل على تآكل شرعية القيادة الدينية في إيران، بعد أن فشلت في تقديم نموذج حكمٍ مستقر أو نظامٍ قابلٍ للتجديد. فالشعب الإيراني لم يعد يبحث عن خطبٍ تُلقي اللوم على الخارج، بل عن حلولٍ تُنقذ لقمة عيشه وتعيد له كرامته المسلوبة. أما المؤسسة الدينية، فبدت عاجزة عن تجديد خطابها أو احتواء الشارع الغاضب الذي لم يعد يخشى السجون ولا المشانق.
لقد أراد خامنئي أن يبعث برسالة طمأنة، لكنها تحوّلت إلى إشارة ضعفٍ سياسي ومعنوي. فالرجل الذي اعتاد أن يتحدث كقائدٍ مطلق، بدا هذه المرّة كمن يطلب من الزمن مهلةً إضافية لنظامٍ فقد بوصلته. ومع استمرار الإعدامات، وتفاقم الانهيار الاقتصادي، وتزايد التململ داخل مؤسسات الدولة، يبدو أن إيران تتجه إلى مرحلة تحوّلٍ خطيرة لن ينجح فيها الخطاب وحده في إنقاذ النظام من السقوط التدريجي.
فخامنئي، بعودته المتأخرة، لم يُعد الثقة بالنظام، بل أكد عمق أزمته. خطاب بلا أفق، لن يبدّد ظلام نظامٍ يتهاوى تحت ثقل جرائمه، مهما طال زمن الخطابة أو قصُر زمن الحقيقة.