الصحافة بين نصّ القانون وسيف السلطة…

حرية الصحافة بين معركة المجتمع وشرط بقاء الوطن

حرية #الصحافة بين معركة المجتمع وشرط بقاء #الوطن

بقلم د. عبد العزيز طارقجي
@dr_tarakji

الإطار القانوني الذي ينبغي إصلاحه فورًا

إن أي إصلاحٍ حقيقي في ملف حرية الصحافة لا يبدأ من الشعارات، بل من النصوص. فالمنظومة القانونية الحالية في لبنان باتت سلاحًا ذا حدٍّ واحد، يُستخدم لتكميم الأفواه لا لتنظيم حرية التعبير. ولذلك، فإن أول خطوة في طريق الإصلاح هي إلغاء التجريم في قضايا الرأي والنشر، واستبدال العقوبات السالبة للحرية بآلياتٍ مدنية عادلة، تعوّض الضرر دون أن تقتل الكلمة. فالكلمة لا تُسجن، بل تُناقش.

ينبغي كذلك حصر اختصاص قضايا النشر بمحكمة المطبوعات كما نصّ عليه قانون المطبوعات رقم 382/1994، ووقف الإحالات العشوائية إلى النيابات العامة أو مكاتب “الجرائم المعلوماتية” التي تُستخدم اليوم كأدوات للترهيب الرقمي. فمحكمة المطبوعات وُجدت لضمان التوازن بين الحرية والمسؤولية، ولتحقيق العدالة المهنية لا العدالة السياسية.

أما قانون المعاملات الإلكترونية رقم 81/2018، فيجب إخضاعه لتعديلٍ جوهريٍّ يمنع استخدامه كسلاحٍ ضد الإعلام الرقمي. هذا القانون صُمّم لتنظيم التواقيع الإلكترونية والبيانات، لا لمحاكمة صحافي كتب تحقيقًا استقصائيًا على موقع إلكتروني. تركه بهذه الصيغة الملتبسة يُبقي سيف الرقابة مصلتًا على الصحافة الإلكترونية، التي أصبحت اليوم المساحة الأكثر حيوية في المشهد الإعلامي اللبناني.

كما يجب وضع بروتوكول وطني شامل لحماية الصحافيين والطواقم الإعلامية خلال التغطيات الميدانية، خصوصًا في المناطق الحدودية أو أثناء الاضطرابات الأمنية. هذا البروتوكول يجب أن يُلزم الأجهزة العسكرية والأمنية بحماية الإعلاميين لا مراقبتهم، وأن يضمن حرية الوصول إلى المعلومة بدل منعها.

وأخيرًا، لا بدّ من الالتزام بتحقيقات دولية مستقلة وشفافة في كل الجرائم التي استهدفت الصحافيين خلال النزاعات، سواء في القصف الإسرائيلي عام 2024 أو الاعتداءات الداخلية التي تلته. فغياب المحاسبة يعني تكرار الجريمة، والصمت الرسمي هو مشاركة غير معلنة في قتل الحقيقة.

إن إصلاح القوانين ليس ترفًا قانونيًا، بل شرط بقاءٍ للصحافة اللبنانية، التي إن فقدت حريتها، فقد الوطن مرآته الأخيرة.

لماذا يُعدّ هذا “حقًّا عامًا” لا معركة مهنية ضيّقة؟

الاعتداء على الصحافة ليس خلافًا بين مهنيَّين، ولا نزاعًا بين سلطةٍ ورأي؛ إنّه عدوان على الحقّ العام في أبهى معانيه. فكلّ رصاصةٍ تُطلق على صحافي هي رصاصةٌ تُصيب حقّ المجتمع في المعرفة، وكلّ استدعاءٍ قضائيٍّ مُسَيَّسٍ هو استدعاءٌ للسكوت الجماعي.

الصحافة ليست مهنة بين المهن، بل الخطّ الأخير في دفاع المجتمع عن وعيه، وحين تُقمع الصحافة، يُحجب الضوء عن الفساد وتُترك الانتهاكات بلا شهود.

حرية الصحافة ليست امتيازًا شخصيًا للصحافيين، بل حقّ جماعي مكفول دستوريًا وشعبيًا، لأنها تمثل الوسيط الذي يُوصل صوت المظلوم إلى الرأي العام، وتحوّل المعلومة إلى رقابة، والكلمة إلى أداة محاسبة. هذا ما نصّت عليه المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي أكدت أنّ “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقّ حرّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، واستقاء الأنباء والأفكار وإذاعتها بأية وسيلة دونما اعتبار للحدود”.

لكن في لبنان، تحوّلت هذه المبادئ إلى أوراق محفوظة في التقارير السنوية، بينما الواقع يقول إنّ كل يوم يُستدعى فيه صحافي هو يوم تتراجع فيه الشفافية، وكل صمتٍ تُرغم عليه غرفة أخبار هو خطوة نحو دولة بلا مرآة.

إنّ معركة حرية الصحافة ليست معركة نقابةٍ أو وسيلة إعلامية، بل معركة المجتمع على ذاكرته وحقّه في الحقيقة. فحين تُسكت الصحافة، تُكتب الرواية الرسمية وحدها، ويُدفن الصوت المستقل تحت أكوام البلاغات القضائية والتهديدات.

الصحافة، في جوهرها، هي حقّ الناس في أن يعرفوا، وهي ميزان كل ديمقراطية. فإذا اختلّ هذا الميزان، اختلت معه كل العدالات الأخرى.

إنّ ما يحدث في لبنان اليوم ليس صراعًا مهنيًا، بل صراع بين الشفافية والظلام، بين القانون العادل والقانون الموجَّه، بين مجتمعٍ يريد أن يرى وسلطةٍ تخشى أن تُرى.

ولهذا، فإن الدفاع عن الصحافة ليس تضامنًا مع مهنة، بل واجب وطني وأخلاقي، لأنّ من يسكت اليوم على استدعاء صحافي، قد يُستدعى غدًا لمجرّد أنه قال الحقيقة.

في الختام: نداءٌ إلى من يملك القرار… ارفعوا أيديكم عن الصحافة

لبنان، الذي كان يُعرَف لعقودٍ بأنه منبر الشرق الحرّ، تحوّل اليوم إلى مختبرٍ متقنٍ لقمع الكلمة الحرة، قمعٍ لا يصدر عن رصاصةٍ أو قرارٍ عسكريٍّ فحسب، بل عن قوانين متقادمة وأجهزة تُعيد إنتاج الخوف بوسائل “قانونية”. في هذا البلد الذي أنجب صحفًا كانت تُترجم عنها عواصم العرب، تُستدعى اليوم الأقلام للتحقيق، وتُحاكَم الحقيقة بتهمة “التشهير”.

إن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ بخطاباتٍ عن “حرية الإعلام”، بل يبدأ بـ إلغاء تجريم النشر والرأي في قانون العقوبات، وبـ إعادة الاعتبار لمحكمة المطبوعات كمرجعٍ وحيد لقضايا الإعلام، وبتوقيف كل أشكال الاستدعاءات الأمنية المقنّعة التي تستهدف الصحافيين. كما يجب أن يُشرَّع فورًا قانون حماية الصحافيين والإعلاميين ليصون حقهم في العمل الميداني، ويُلزم السلطات الأمنية بحمايتهم لا مطاردتهم.

لكن الأهم من النصوص، هو الموقف السياسي والأخلاقي. فـالأحزاب السياسية والعسكرية اللبنانية مطالَبة اليوم، دون مواربة، بأن ترفع يدها عن الإعلام، وأن تكفّ عن التحريض على الصحافيين لمجرّد انتقادها، وأن تُدرك أنّ قمع الرأي ليس حمايةً للهوية، بل اغتيالٌ للوطن من الداخل. كما أنّ على الدولة أن تتحمّل مسؤوليتها في حماية الصحافيين، لا في تبرير الاعتداء عليهم أو التستّر على المعتدين.

لن تُستعاد هيبة لبنان ولا مكانته إلا إذا استعاد حقّه في كلمةٍ حرّةٍ لا تخاف من الاستدعاء ولا تُرهبها الميليشيا ولا يُسكتها القاضي.

فإن استمر الصمت، ستبقى الحقيقة هي الضحية الأخيرة في وطنٍ كان يومًا مهدَ الصحافة العربية، لكنه اليوم يقف على حافة أن يُصبح مقبرتها.


* صحافي استقصائي و باحث في الانتهاكات الدولية لحقوق الانسان

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com