#الصحافة بين نصّ القانون وسيف السلطة…

قراءة في منظومة استهداف الإعلام في لبنان

قراءة في منظومة استهداف #الإعلام في #لبنان

بقلم د. عبد العزيز طارقجي
@dr_tarakji

لم تعد مشكلة حرّية الصحافة في لبنان حادثةً عابرة تُقاس بعدد الاستدعاءات أو البلاغات الأمنية، بل تحوّلت إلى منظومة تضييق متكاملة تتشابك فيها السياسة مع القانون والقضاء.

فمنذ مطلع عام 2024، شهد لبنان تصاعدًا غير مسبوق في الاستهداف الممنهج للصحافيين والمؤسسات الإعلامية: استهداف ميداني في مناطق التماس الجنوبية خلال الحرب، واعتداءات على فرق إعلامية أثناء التغطيات، يقابلها في الداخل سباق قضائيّ محموم يوظّف النصوص القانونية لإسكات النقد بدل حمايته.

تستند السلطات في معظم هذه الملاحقات إلى مواد من قانون العقوبات اللبناني، أبرزها المواد 383 إلى 387 التي تجرّم “القدح والذمّ والإهانة” بحق الموظفين العموميين أو السلطات العامة، وتنصّ على عقوبات تصل إلى الحبس والغرامة، رغم أن المادة (13) من الدستور اللبناني تضمن “حرية إبداء الرأي قولًا وكتابةً وحرية الطباعة ضمن دائرة القانون”.

كما يُستخدم قانون المعاملات الإلكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي رقم 81/2018 لتوسيع مفهوم “الجرائم المعلوماتية”، بحيث تُستدعى صحف إلكترونية وصحافيون للتحقيق أمام مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية بدلًا من مثولهم أمام محكمة المطبوعات المختصّة أصلًا بقضايا النشر، في مخالفةٍ واضحةٍ لمبدأ الاختصاص المنصوص عليه في قانون المطبوعات رقم 382/1994.

إنّ ما يجري ليس مجرّد خطأ في التطبيق، بل نهجٌ في تطويع القانون لخدمة القوة. فالنتيجة اليوم: غرفة أخبار تعمل تحت القصف أو تحت الاستدعاء، وصوتٌ إعلاميٌّ يختنق بين رصاصةٍ مجهولةٍ ومذكرةٍ قضائية.

وما يُختزل في الإعلام المحلي كـ“سجالٍ سياسي” هو في جوهره قضية حقّ عام، تمسّ جوهر المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تؤكد أن لكل إنسان “حقًّا في اعتناق الآراء دون مضايقة”، وحقًّا في “حرية التعبير، بما في ذلك حرية التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين”.

غير أنّ الواقع اللبناني المعقّد اليوم يُظهر أن القانون الذي كان يُفترض أن يحمي هذا الحق، صار هو الأداة الأكثر فاعلية في تقويضه.

أرقام تقريريّة تُكذّب الادّعاء بأن “كل شيء على ما يرام”

عام 2024 لم يكن مجرّد سنة أخرى في سجلّ الصحافة اللبنانية، بل مثّل العام الأكثر فتكًا بالصحافيين عالميًا بحسب تقارير لجنة حماية الصحافيين (CPJ) ومنظمة “مراسلون بلا حدود”. وقد حصدت الحرب في جنوب لبنان نصيبًا مؤلمًا من هذا الرقم، بعد الضربة الإسرائيلية في 25 تشرين الأول / أكتوبر 2024 التي أودت بحياة عدد من الصحافيين والعاملين الإعلاميين أثناء تغطيتهم الميدانية، في خرقٍ واضحٍ لمبدأ الحماية المكرّس في المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977، التي تنصّ صراحة على أن “الصحافيين الذين يباشرون مهمات مهنية في مناطق النزاعات يُعاملون كمدنيين ويجب حمايتهم من أي عمل عدائي”.

وفي الداخل اللبناني، لم يكن المشهد أفضل حالًا. فخلال كانون الثاني / يناير 2025، تم تسجيل اعتداءات ميدانية ومنعٍ مباشر للبثّ ضدّ طواقم إعلامية أثناء تغطيتها أحداثًا في الجنوب، ما أعاد التذكير بأن الصحافة في لبنان لم تعد تواجه الخطر من الخارج فحسب، بل من الداخل أيضًا. هذه الحوادث الموثقة من نقابات ومؤسسات دولية ومحلية أكدت أن “البيئة العدائية ضدّ الإعلاميين أصبحت جزءًا من المشهد العام”، لا استثناءً ظرفيًا.

أما على الصعيد القضائي، فقد شهد العام 2025 تصعيدًا غير مسبوق في الملاحقات القانونية ضد المؤسسات الإعلامية المستقلة، تحت غطاء دعاوى “القدح والذمّ” أو “الجرائم الإلكترونية”. عشرات الاستدعاءات والتحقيقات استهدفت صحافيين ومواقع رقمية على خلفية تحقيقات مالية ومصرفية تناولت قضايا الرأي العام، في سياق يعكس استخدام القضاء كأداة ردعٍ ممنهجة بدلًا من كونه ملاذًا للعدالة.

لم تَعُد الاعتداءات على الصحافيين في لبنان مقتصرة على القوى الأمنية أو الإجراءات القضائية فحسب، بل امتدت لتشمل أنصار الأحزاب السياسية والعسكرية الذين باتوا يتعاملون مع أي رأيٍ نقديٍّ كـ “تهديدٍ وجوديٍّ” لمشاريعهم أو زعاماتهم.

تنوّعت الاعتداءات بين اعتداءات جسدية مباشرة أثناء التغطيات، وحملات تشهير رقمية على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحريض علني ضد صحافيين بتهم “الخيانة” أو “العمالة”، لمجرد تناولهم ملفات فساد أو انتقاد أداء أحد الزعماء. وغالبًا ما تمر هذه الاعتداءات من دون أي ملاحقة قضائية حقيقية، ما يعزّز ثقافة الإفلات من العقاب.

يُذكّر هذا النمط الممنهج بنصّ المادة (329) من قانون العقوبات اللبناني التي تُجرِّم “كل من استعمل العنف أو التهديد لمنع شخص من ممارسة حقٍّ مشروعٍ أو لإجباره على عملٍ أو تركٍ مخالفٍ لإرادته”، وهي مادةٌ كان يجب أن تكون درعًا لحماية الصحافيين، لكنها تحوّلت إلى نصٍّ مهمل في الواقع العملي، إذ نادرًا ما تُطبَّق في حالات الاعتداء ذات الطابع السياسي أو الحزبي.

إنّ أخطر ما في هذه الظاهرة أنّها باتت تُمارس بعلم القيادات السياسية أو بتغاضٍ منها، ما يجعلها أقرب إلى سياسةٍ غير معلنةٍ لإخضاع الإعلام، وتحويل الصحافة من سلطة رقابية إلى صوتٍ محسوبٍ على الولاءات. وبهذا، يصبح الصحافي في لبنان عرضةً للاستهداف المزدوج: من الدولة بقوانينها، ومن الأحزاب بشارعها، في مشهدٍ يُختصر بأنه “عقاب على الحقيقة أينما وُجدت”.

هذه الوقائع، عندما تُجمع، تُظهر أن ما يُقدَّم في الخطاب الرسمي كـ“حالات فردية” ليس سوى نظام تضييق منسّق، تتنوّع أدواته بين الرصاصة والدعوى القضائية، وبين “التحقيق الأمني” و“التحقيق المالي”.

فالنتيجة واحدة: الصحافة في لبنان تُحاصر من كل الاتجاهات، والحديث عن “حرية الإعلام المصونة” لم يعد سوى شعارٍ يُردَّد في البيانات، بينما الواقع يشي بأن الانتهاكات باتت ممنهجة، متكررة، وموثقة، والأخطر أنها تُمارَس باسم القانون ذاته.

يتبع…


* صحافي استقصائي و باحث في الانتهاكات الدولية لحقوق الانسان

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com