الصحافة بين نصّ القانون وسيف السلطة…

وقائع وأدوات القمع، بين الرصاصة والدعوى القضائية

بقلم د. عبد العزيز طارقجي

كيف تُستَغلّ المسارات القضائية لتقييد الصحافة؟

في لبنان، لم تَعُد القوانين تُكتب لحماية الكلمة، بل لتقييدها. فالمواد التي وُضعت لحفظ كرامة الإنسان والموظف العام باتت سيفًا يُشهر في وجه من يكتب الحقيقة. تُستخدم المواد 383 إلى 389 من قانون العقوبات اللبناني لتجريم كل رأيٍ ينتقد سلطة أو يفضح فسادًا، بحجة “القدح والذمّ والإهانة”. هذه المواد تحوّلت إلى مقصلة تشريعية تهدد أي صحافي يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها، متناسية أن المادة 13 من الدستور اللبناني تضمن “حرية إبداء الرأي قولًا وكتابةً وحرية الطباعة والنشر”.

والأدهى، أنّ الدولة أنشأت لنفسها جهازًا رقابيًا جديدًا تحت لافتة التكنولوجيا. فـمكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية لم يعد يلاحق القراصنة، بل الصحافيين الإلكترونيين. يستند هذا المكتب إلى قانون المعاملات الإلكترونية رقم 81/2018، الذي جرى تفريغه من هدفه الأصلي، وتحويله إلى فخٍّ قانوني يُساق إليه الإعلاميون كما يُساق المتّهمون. صار النشر الإلكتروني يُعامل كجريمة، والمقال يُقرأ كدليل إدانة، وكأنّ الكلمة الحرة أخطر من أي جريمة مالية أو سياسية.

أما محكمة المطبوعات “التي أنشئت في قانون المطبوعات رقم 382/1994 لتكون الحصن القانوني للصحافة” فقد جرى تحييدها عمدًا. يُحال الصحافيون إلى النيابات العامة أو إلى مكاتب الضابطة العدلية، في استبدالٍ فجٍّ للمساءلة القانونية بالترهيب الأمني. هناك، تُطرح الأسئلة ليس عن الدليل المهني، بل عن “الجهة التي تموّلك” و“من أعطاك المعلومات”، لتتحول العدالة إلى تحقيق استخباري بلباسٍ قضائي.

بهذه الطريقة الممنهجة، أُعيد تشكيل العلاقة بين الصحافة والدولة، لم تَعُد الصحافة سلطة رقابية، بل ملفًا أمنيًا مفتوحًا؛ ولم يَعُد القضاء حاميًا للحقّ، بل شريكًا في كمّ الأفواه. فكل قلمٍ ناقد بات مشروع دعوى، وكل تقريرٍ استقصائيٍّ أصبح قنبلة موقوتة قد تنفجر في مكتب المحقق.

إنّ ما يجري ليس تطبيقًا للقانون، بل اغتيالٌ ناعمٌ للحقيقة باسم القانون.

هذه هي المعادلة الجديدة في لبنان: من يكتب يُستدعى، ومن يصمت يُكافأ، ومن يصرّ على قول الحقيقة يُحوَّل إلى متّهم.

المسؤوليات، من يَسأل ومن يُحاسَب؟

حين تُستهدف الصحافة، لا يُسأل الصحافي عمّا كتب، بل يُسأل الوطن عمّا سكت عنه. تقع على عاتق الدولة اللبنانية مسؤولية قانونية وأخلاقية واضحة في حماية الصحافيين زمن الحرب والسلم، بموجب ما تنص عليه المادة (79) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977، التي تعتبر الصحافيين المدنيين “أشخاصًا محميين” لا يجوز الاعتداء عليهم أو عرقلة عملهم. كما أنّ المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تُلزم الدولة بضمان حرية التعبير لا التضييق عليها، وبحماية من يمارسها لا معاقبته.

لكن في لبنان، تحوّلت هذه الالتزامات الدولية إلى شعارات معلّقة في التقارير، بينما الواقع يشهد عكسها: قصفٌ بلا مساءلة، واستدعاءات بلا مبرّر، وصمتٌ رسميٌّ يحمي المعتدي بدل أن يحمي الصحافي.

أما السلطات التشريعية والقضائية، فمسؤوليتها مضاعفة. فحين تُبقي مواد قانون العقوبات (383–389) سارية، وتغضّ الطرف عن إساءة استخدامها، فهي تشارك في الجريمة لا تنظّمها. وعندما تسمح النيابات العامة بإحالة قضايا النشر إلى مكاتب أمنية بدل محكمة المطبوعات، فهي لا تطبّق القانون، بل تطوّعه لخدمة السلطة. القضاء الذي يتواطأ مع الخوف، لا يمكنه أن يُنصف الحقيقة.

ولا تقلّ مسؤولية القوى السياسية والاقتصادية خطورةً. إذ تحوّلت الدعاوى القضائية التي ترفعها المصارف، والأحزاب، وبعض الشخصيات النافذة إلى أداة ترهيبٍ منهجيٍّ ضد الإعلام المستقل. كل تحقيق صحفي في ملف مالي أو سياسي يُقابَل بدعوى، وكل تقرير استقصائي يُلاحَق ببلاغ، وكأنّ هدف هذه المنظومة ليس الدفاع عن “السمعة”، بل اغتيال حق المجتمع في المعرفة.

إنّ المسؤوليات هنا مترابطة: الدولة تسكت، القضاء يُنفّذ، والسياسيّ يُحرّض، والنتيجة منظومة واحدة تحكمها قاعدة واحدة: من يكتب يُحاسَب، ومن ينهب يُحمى.

في هذا المشهد المعكوس، يصبح القانون درعًا للسلطة لا للمواطن، ويُختزل دور العدالة في حماية الأقوياء من النقد لا حماية الضعفاء من القمع.

يتبع…


* صحافي استقصائي و باحث في الانتهاكات الدولية لحقوق الانسان

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com