البونكر السعيد : ما بين نبيه برّي وإيفا براون

بقلم هشام بو ناصيف

بالشكل، لا شيء يجمع بين حرب نبيه برّي الضروس على تصويت المغتربين؛ وتأكيد نعيم قاسم أن حزبه استعاد عافيته؛ وكلام الصحافي قاسم قصير أنّ مسؤولًا بـ “المقاومة” حدّثه عن تصميمها على “اجتياح الجليل”. أمّا في المضمون، فكلّ ما سبق حلقات مختلفة من سلسلة تشي أن النخب الشيعيّة الممانعة تهذي. استطرادًا، أمّا وأن هذه النخب لا تزال قابضة على الحكم بلبنان، فهذا يعني أن البلاد صارت مصحًّا عقليًّا كبيرًا، أو عصفوريّة كما نقول بالعاميّة، وأن مشهدها العام بات مسرحًا يوميًّا تختلط فيه المأساة، بالكوميديا، بالديستوبيا.

يعيش مئات آلاف اللبنانيّين بالخارج، وتحويلاتهم إلى بلادهم عصب اقتصادها. ما يقوله برّي للمغتربين عبر موقفه من تصويتهم هو هذا: تابعوا إرسال أموالكم إلى خزنة السلطة المركزيّة التي أسيطر عليها، ولكن احتفظوا بآرائكم السياسيّة، وتاليًا بأصواتكم، لنفسكم. هل من وقاحة بتاريخ لبنان أكبر من هذه؟ بالحقيقة، سرديّة برّي لجهة أن من يريد التصويت من المغتربين يستطيع السفر إلى لبنان ليفعل لا تعدو كونها مزحة جديدة من مزاحه السمج المستمرّ منذ عقود هي عمر حضوره الثقيل في سياسة بلادنا. يعلم أيّ مراقب جدّي أنّ كثرًا لن يستطيعوا ترك أشغالهم، والانتقال من دول كالولايات المتحدة، أو كندا، أو أستراليا، أو سائر حواضر الانتشار بالعالم، للتصويت بلبنان، ثمّ العودة إلى المهجر كأنّ المسألة نزهة. بأيّ دولة في العالم، منع المغترب من التصويت جريمة من طراز جرائم التمييز العنصري، أو الديني. أمّا في لبنان، حيث الاغتراب عماد البلاد، فما يقترفه رئيس حركة “أمل” يفوق القدرة على الوصف، ويصعب الكلام عنه بلغة مهذبة. ومع التقدير للقوى التي تواجه نبيه برّي بهذه المسألة، فهي تتعاطى معه بلطف لا يستحقه. الردّ الجدّي على ارتكابات هذا الرجل يكون بقطع كلّ علاقة مع تركيبة حكم هو فيها، ورفض الاعتراف بشرعيّتها، ومواجهتها بكلّ الوسائل السلميّة، بما في ذلك العصيان المدني. استطرادًا: أمّا وأن نبيه برّي يمثل مكوّنًا يمحضه الثقة، فلا مفرّ من طرح الشراكة المفترضة مع هذا المكوّن موضع البحث. أي حياة وطنيّة ممكنة مع من لا نتفق معهم حتى على مسألة بديهيّة كحق المغترب بالتصويت؟

أداء نبيه برّي سوريالي. ولكن السورياليّة تتحوّل إلى ديستوبيا خالصة عندما ننتبه إلى أن حراك برّي يندرج على خلفيّة احتفال نعيم قاسم بحزبه الذي يقول إنه استعاد عافيته. ما الأسهل يا نعيم قاسم؟ غزو إسرائيل، أم التصدّي للـ MK فوق رؤوس اللبنانيّين؟ إن كانت “المقاومة” مصمّمة على غزو الجليل كما سرّب قاسم قصير، فلماذا لا تحرّر اللبنانيّين أوّلًا من الطنين الدائم لأجهزة إسرائيل فوق رؤوسهم؟ ولو أن الميليشيا الشيعيّة استعادت عافيتها فعلًا، فلماذا لا تحمي كادراتها الذين تصطادهم اسرائيل كلّ يوم؟ يمكن دمج كلّ هذه الأسئلة بواحد: إلى أيّ درجة يظن نعيم قاسم أن المستمعين له أغبياء؟

قبل سنتين، جمعني نقاش تلفزيوني بقاسم قصير. أحترم تهذيبه. ولكني فهمت فورًا من الحوار أن الإيمان الديني يلوّن ويؤثّر مباشرة على فهمه للسياسة، وسألت نفسي لاحقًا أن كيف بالإمكان الوصول إلى قواسم مشتركة مع من ينظرون إلى السياسة من منظار الماورائيّات. ومنذ أيّام، قرأت بذهول ما نقله قصير عن أحد القادة البارزين في “المقاومة” العازمين على “اجتياح الجليل”، وسألت نفسي مجدّدًا: هل هذا الوعي وعي أسوياء؟

والحال أن المشهد اللبناني الحالي ليس معقولًا. لا أظن أنّني أبالغ عندما أقول إنه لم يعد بالإمكان إغفال قضيّة السويّة العقليّة عند مقاربة الخطاب السياسي الممانع الحالي. للتذكير: بينما كانت الدبّابات الروسيّة تحاصر برلين، كان أدولف هتلر يتصدّى لها بوحدات ألمانيّة موجودة على الورق فقط. هل كان الفوهرر لا يزال سويًّا آنذاك؟ هل كانت زوجته إيفا براون سويّة عندما نظمت حفلة راقصة بالساعات الأخيرة للبونكر الشهير ببرلين، بينما كانت الأرض تهتز فوقها بالقصف الروسي؟ سؤال السويّة العقليّة شرعي لأيّ مؤرّخ مهتمّ بدراسة آخر أيّام الرايخ الثالث. والسؤال عينه شرعي عندنا اليوم. وحبّذا لو يتوقف قارئ هذه السطور للحظة ليتخيّل نبيه برّي مغبوطًا بانتصاره على المغتربين، بينما طبول الحرب تقرع بالجنوب، وعقود أربعة من المرجلة الشيعيّة على إسرائيل فضحتها أيّام من المواجهات العسكريّة. إن لم يكن مشهد حرب برّي على المغتربين فيما البلاد تغرق عصفوريّة، فما العصفوريّة؟ يبقى القليل، ويجبرنا برّي، كما أجبرت إيفا براون خلصاءها، على الرقص، والسكر، والاحتفال، بينما تطبق الهاوية علينا كما أطبقت عليها. والحال أن بروان وزوجها استحقا مصيرهما بالبونكر. ولكن اللبنانيّين المعارضين لـ “الثنائي” لا يستحقون.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com