الجمعيات بين رسالة التطوع ومزرعة المصالح : واقع الجمعيات في لبنان بين الفوضى والإستقلالية

بقلم رياض عيسى

يُقال إن اللبناني وُلد وفي جيناته حبّ العطاء وروح العمل التطوعي.

منذ عقود، كان الناس يعرفون “العَوْنَة” و”الفزعة”، حيث يتكاتف الجيران لحصاد القمح، وبناء البيوت، ومساندة بعضهم في الأفراح والأتراح، وفي مواجهة كل أزمة أو عدوان.

هذه الروح الأصيلة هي التي أعادت إعمار القرى بعد الحروب، وأطفأت الحرائق، ورفعت الركام بعد انفجار المرفأ، حين غابت الدولة وبقي المتطوعون وحدهم في الميدان.

لكن المؤسف أن هذه الروح النقية تلوثت في السنوات الأخيرة، حين تحوّل العمل الأهلي عند البعض إلى وسيلة نفوذ، أو مشروع شخصي يدر الأرباح بدل أن يصنع الفرق، أو وسيلة لكسب نفوذ او مدخل للعب دور سياسي أو إجتماعي.

تضاعف عدد الجمعيات بشكل لافت حتى تجاوز 13 ألف جمعية مسجّلة في لبنان، أي بمعدل 600 إلى 700 جمعية جديدة سنويًا، بحسب مؤسسة “الدولية للمعلومات”.

لكن من بين هذا الرقم الهائل، لا يتعدّى عدد الجمعيات النشطة فعلاً خمس مئة جمعية تعمل بجدية ونزاهة، بينما البقية في سبات أو تُستخدم كواجهة اجتماعية وسياسية ومالية لأشخاص وجهات حزبية غب الطلب.

يُعتبر لبنان من أوائل الدول العربية التي أقرّت قانوناً للجمعيات عام 1909، أي قبل ولادة دولة لبنان الحديثة. هذا القانون، على الرغم من مرور أكثر من قرن على صدوره، ما زال يُشكّل الإطار القانوني الناظم لعمل الجمعيات، وقد ساهم في تعزيز حرية تأسيسها من دون الحاجة إلى ترخيص مسبق، والاكتفاء بإيداع «علم وخبر» لدى وزارة الداخلية.

هذه الصيغة القانونية المتقدمة ساعدت على انتشار الجمعيات بشكل غير مسبوق، حتى تجاوز عددها اليوم ثلاثة عشر ألف جمعية، في ظاهرة تكاد تكون لا مثيل لها في العالم. لكن المفارقة أن هذا التزايد الكمي لم ينعكس بالضرورة تحسناً في الواقع الاجتماعي أو الاقتصادي، بل ترافق أحياناً مع ازدياد الفوضى وتراجع الثقة العامة بالعمل المدني.

فمن جهة، يشكّل هذا الانتشار دليلاً على حيوية المجتمع اللبناني، وانفتاحه على قيم التطوع والمشاركة، وقدرته على ابتكار مبادرات مجتمعية لمواجهة غياب الدولة وانهيار مؤسساتها. ومن جهة أخرى، أتاح القانون الفضفاض والرقابة الشكلية المجال أمام جمعيات وهمية أو حزبية أو ذات ارتباطات خارجية للعمل من دون حسيب أو رقيب، مما شوّه مفهوم المجتمع المدني وفتح الباب أمام الاستنسابية والارتهان السياسي والمالي.

لكن تصحيح هذا الواقع لا يكون بفرض رقابة حكومية، لأنّ الحكومات اللبنانية نفسها غارقة في الفساد والهدر وسوء الإدارة. ومن غير المقبول أن تتحول السلطة السياسية إلى رقيبٍ على المجتمع المدني فيما يفترض أن يكون المجتمع المدني هو الرقيب على أداء السلطة، لا العكس. فالمطلوب ليس مزيداً من الوصاية، بل تعزيز الشفافية الداخلية لكل جمعية عبر رقابة ذاتية تمارسها هيئاتها العامة المنتخبة، ونشر تقاريرها المالية عوأنشطتها بشكل علني ودوري وعبر مواقعها الإلكترونية.

إنّ الجمعيات التي تسعى فعلاً إلى خدمة الناس وبناء الوطن يجب أن تحكمها ثلاثة أسس لا حياد عنها:

1. الديمقراطية في اتخاذ القرار داخل هيئاتها ومجالسها المنتخبة وفتح باب الإنتساب وتداول السلطة.
2. الاستقلالية في التمويل والموقف والقرار بعيداً عن الأحزاب والمرجعيات الدينية والجهات الخارجية.
3. الفعالية ( تحقيق الأهداف) في العمل الميداني وخدمة المجتمع ببرامج حقيقية تعكس حاجاته لا أجندات الممولين.

الإشكالية في الأمر أن بعض الجمعيات أصبحت صورة مصغّرة عن السلطة السياسية التي يفترض على الجمعيات أن تراقب أداءها:

– فساد ومحسوبيات في الكثير من الأحيان.
– زعامات صغيرة وأموال طائلة ومشاريع مشبوهة.
– تداخل في المصالح بين العام والخاص.
– واستغلال للمساعدات والهبات لتوسيع النفوذ أو تحسين الصورة المجتمعية للقيمين على الجمعية.

هكذا تحوّل قسم من “المجتمع المدني” إلى شبه سلطة موازية تتلقى التمويل الخارجي وتدّعي الإصلاح وتدعوا للشفافية ، بينما تمارس الأساليب ذاتها التي ننتقدها في مؤسسات الدولة.

وهنا تقع مسؤولية كبرى على الجهات المانحة، التي كثيرًا ما تعرف هذه الحقائق وتتغاضى عنها حفاظًا على علاقاتها أو مصالحها، بدل أن تفرض معايير شفافة للمساءلة والمحاسبة.

نحن لا نطالب بتقليص عدد الجمعيات، ولا بتقييد حرية التنظيم المدني.

بل نريد أن تكون الجمعيات تحت حكم الشفافية والحوكمة الرشيدة، وأن تُعاد الروح الأصيلة التي قامت عليها فكرة التطوع:

خدمة الناس لا خدمة الذات.
تفعيل المشاركة المجتمعية لا احتكار القرار.
تغيير الواقع لا استثماره.

لقد أثبتت التجارب أن الجمعيات الصادقة والشفافة هي شعلة مضيئة وسط ظلام الدولة العاجزة، وهي صمّام أمان اجتماعي وإنساني في الأزمات الاقتصادية والحروب والكوارث.

لكن إن لم تُنقَّ هذه الساحة من الدخلاء والانتهازيين، فستُطفأ هذه الشعلة، ويُفقد الناس ثقتهم بالمجتمع المدني كله.

اللبناني لا تنقصه المبادرة ولا الإنسانية، إنما تنقصه الرقابة والمساءلة.

بهذه المبادئ، يمكن أن يصبح المجتمع المدني شريكاً حقيقياً في بناء الدولة، لا بديلاً عنها ولا تابعاً لها، بل قوة رقابية فاعلة تدافع عن حقوق الناس وتسدّ الثغرات التي خلّفها الانهيار المؤسسي.

فلبنان اليوم بحاجة إلى مجتمع مدني ديمقراطي، مستقل، وفعّال… لا إلى جمعيات تبحث عن تمويل، ولا إلى سلطة تبحث عن إخضاع كل صوت حرٍّ بالمراقبة والتضييق.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com