خاص بوابة بيروت

رئيس التحرير
لم تكن جلسة الأمس في مجلس النواب اللبناني مجرد حدثٍ برلماني عابر، بل لحظة سياسية فاصلة كشفت تحوّلًا نوعيًا في ميزان القوى داخل السلطة التشريعية. فـ الرئيس نبيه بري، الذي اعتاد منذ ثلاثة عقود إدارة الجلسات بمنطق الإملاء لا الشراكة، تلقّى خسارة مدوية بعدما فشل في تأمين النصاب القانوني للجلسة التي راهن عليها لإثبات قدرته على الإمساك بمفاصل القرار النيابي.
رفع الجلسة لم يكن قرارًا تقنيًا، بل اعترافًا ضمنيًا بسقوط الهيمنة القديمة التي حكمت المجلس النيابي منذ التسعينيات تحت مظلة الثنائي الشيعي، وتحديدًا “حزب الله” الذي شكّل على الدوام الدرع السياسي لبري وسياسته.
لكنّ المشهد تغيّر. فـ أكثرية نيابية جديدة قوامها نحو 65 نائبًا، من اتجاهات سياسية مختلفة، وقفت في وجه ما اعتبرته محاولة لإعادة إنتاج الوصاية داخل المؤسسة التشريعية، وقالت كلمتها بوضوح، “انتهى زمن الاحتكار، وبدأ زمن التوازن”.
إنّ رمزية ما جرى تتجاوز الجلسة نفسها، لتؤشر إلى بداية تفكّك منظومة السيطرة التي فرضها بري على الحياة البرلمانية، مستخدمًا موقعه لتحويل البرلمان إلى أداة تعطيلٍ بدل أن يكون ساحة نقاشٍ ديمقراطي. اليوم، يواجه رئيس المجلس للمرة الأولى معارضة حقيقية داخل القاعة العامة، لا من خلال الخطابات بل من خلال الأرقام والغياب المقصود عن الجلسة الذي عطّل نصابها وأسقط رهانه.
سياسيًا، تمثل هذه الواقعة صفعةً مزدوجة، الأولى لبري الذي بات عاجزًا عن فرض إيقاعه على المجلس كما كان يفعل، والثانية لـ”حزب الله” الذي يرى في هذا التبدّل النيابي مؤشّرًا إلى انحسار نفوذه داخل المؤسسات الشرعية.
فالقوى المعارضة للهيمنة لم تعد محصورة في صفوف الكتائب والقوات والتغييريين، بل امتدّت إلى نواب مستقلين ووسطيين أدركوا أن استمرار التعطيل يعني موت الدولة وانهيار ما تبقّى من الجمهورية.
إنّ فشل الجلسة الأخيرة ليس سوى مقدمة لمرحلة جديدة من الحياة السياسية اللبنانية، عنوانها إعادة الاعتبار للمجلس النيابي كمؤسسة سيادية تعبّر عن إرادة الناس لا إرادة السلاح. فاللبنانيون الذين سئموا من مشهد الاستئثار والجمود، وجدوا في هذا الحدث بادرة أمل بأن التغيير ممكن من داخل المؤسسات، وأن سلطة “الثنائي” لم تعد قدَرًا.
لقد كُسر حاجز الخوف النيابي، وظهر أن إرادة الأكثرية قادرة على فرض واقعٍ جديد يحدّ من نفوذ بري و”حزب الله” داخل المجلس.
وإذا كانت هذه الخسارة البرلمانية قد أربكت رئيس المجلس اليوم، فإنّ الاستحقاقات المقبلة، من انتخابات 2026 إلى إقرار القوانين الإصلاحية، ستظهر ما إذا كان هذا التحوّل عابرًا أم بداية مسارٍ طويل لاستعادة الدولة من براثن الوصاية الداخلية والخارجية.
إنها هزيمة سياسية صافية لبري وشريكه “حزب الله”، لكنها في المقابل انتصارٌ للديمقراطية اللبنانية ولـ65 نائبًا قرروا أن يقولوا “لا” في وجه سلطةٍ تجاوزت حدودها.
ولعلّ أهم ما في هذه اللحظة أن الشعب اللبناني، الذي فقد ثقته بالطبقة الحاكمة، بدأ يرى أخيرًا بصيص أملٍ في أن المجلس النيابي يمكن أن يتحوّل من مسرح طاعة إلى منبر سيادة.