براءةٌ من الدم، وحقٌّ يُنتظر أن يُستعاد
–
بقلم د. عبد العزيز طارقجي
@dr_tarakji
ليس السؤال اليوم: هل يُحاكَم فضل شاكر؟ بل: كيف يُحاكَم؟ فبعد 12 عامًا من المطاردة، سلّم الفنان اللبناني نفسه مساء السبت 4 أكتوبر/تشرين الأول 2025، لتُطوى مرحلة الهروب وتُفتح مرحلة الحقيقة.
المطلوب الآن محاكمة عادلة تُعيد الاعتبار لمبدأ سيادة القانون وتُنهي سنوات من الحملات المُستثمِرة في الانقسام اللبناني ــ السوري، والتي حوّلت القضية إلى مادة تعبئة سياسية وإعلامية، لا إلى ملف جنائي تُحسمه أدلة راسخة أمام قضاء مستقل.
وقائع لا بدّ من تثبيتها
– تاريخ التسليم والمحكمة المختصّة: سلّم شاكر نفسه في 4 أكتوبر/تشرين الأول 2025، وبمثوله أمام القضاء في بيروت لاحقًا بدأت الإجراءات من جديد لأن الأحكام الغيابية تسقط بالتسليم وتُعاد المحاكمة «من الصفر».
– أحكام 2020 الغيابية وماهيتها: في ديسمبر/كانون الأول 2020 أُدين غيابيًا بالسجن 22 سنة (مع الأشغال الشاقة) على خلفية تقديم دعم لوجستي ومالي لمجموعة الشيخ أحمد الأسير، لا على خلفية قتل عسكريين.
– البراءة من تهمة القتل والمواجهة المباشرة (2018): سبق للمحكمة العسكرية أن برّأت شاكر عام 2018 من الاشتراك المباشر في قتل عسكريين أو قتال الجيش خلال أحداث عبرا (2013) لعدم ثبوت الأدلة.
– المشهد الراهن (أكتوبر 2025): بعد التسليم، مثُل شاكر أمام القضاء، وجرى استجوابه تمهيدًا لإعادة فتح الملف قضائيًا. بالتوازي، انتشرت شائعات عن «براءة فورية»، وقد فنّدتها تقارير تدقيق محترفة وأكّدت أن المسار القانوني لم ينتهِ بعد.
شهادات قانونية وإعلامية تؤكّد البراءة وتفنّد التضليل
أكّد محامون لبنانيون، بينهم السيد نبيل الحلبي، قناعتهم ببراءة فضل شاكر من شبهة الاشتراك في قتل عسكريين، منذ سنوات؛ إذ صرّح الحلبي بأنّه «مقتنع ببراءة فضل شاكر»، وشرح ملابسات مقطع فيديو جرى توظيفه على نحو مُضلِّل آنذاك، كما انتقد دور المحكمة العسكرية بوصفها ساحة قابلة للتسييس في قضايا مدنيين.
نبيل الحلبي معروف كمدافع عن حقوق الإنسان ومقرّب من هذا الملف، وله سجل يثير الاحترام في مواجهة ملفّات الإرهاب في لبنان.
كما ظهرت مداخلات قانونيّة حديثة تُساند هذا المنحى، بينها سجال تلفزيوني بين محاميين حول «تبرئة» شاكر ودلالات الملف، ما يعكس أنّ النقاش القانوني العام بات يميل إلى فرزٍ واضح بين تهمة القتل التي بُرِّئ منها سابقًا وبين قضايا «الدعم/التمويل» التي تُعاد محاكمتها بعد تسليمه نفسه.
وإزاء موجة أخبار «براءة فورية» بعد التسليم، تولّت وسائل رصينة تفنيدها والتذكير بأن البراءة الأسبق (2018) تخصّ الاشتراك في القتال، وأن إعادة المحاكمة الآن ستسير «من الصفر» وفق الأصول.
وإلى جانب ذلك، خرجت محامية شاكر بتصريحات علنيّة تؤكد براءة موكّله من التهم المنسوبة إليه وتطالب بمحاكمة عادلة غير خاضعة لاعتبارات سياسية، في انسجامٍ مع سردية الدفاع المستقرّة منذ سنوات.
فضل شاكر الإنسان.. وصورة الجمهور اللبناني والعربي
على المستوى الإنساني، ظلّت صورة فضل شاكر لدى قطاع واسع من اللبنانيين والعرب مرتبطةً بصوته العاطفيّ ونتاجه الرومانسيّ وبكونه شخصية مرهفة وحسّاسة حتى في أوقات العزلة والضغوط.
وقد عكست العودة الفنيّة التدريجيّة عبر أعمالٍ جمعته بابنه مؤخرًا تفاعلاً جماهيريًا لافتًا؛ إذ سجّل التعاون الأخير أرقام مشاهدة ضخمة تخطّت مئة مليون مشاهدة، في إشارة إلى رصيدٍ وجدانيّ لم يتأثر مع الزمن، وإلى رغبة جمهورٍ كبيرٍ في فصْل الفن عن الاستثمار السياسي في قضيّته.
هذا التفاعل رصدته أيضًا تقارير إخبارية دوليّة عند خبر تسليمه نفسه، التي قاربت الملف القضائي ببرودة، لكنها لفتت إلى اتساع قاعدة متابعيه عربيًا واستمرار حضوره الفنيّ.
كما وثّقت تغطيات عربية أخرى توقّعات «براءة محتملة» لدى بعض الأوساط وتأكيدات مقابلة بأنّ الحسم قانوني لا إعلامي، وهو ما يعزّز دعوة أنصار شاكر إلى محاكمة علنيّة غير مسيّسة تُعيد الاعتبار للوقائع بعيدًا من التشهير.
لماذا نقول إن القضية مُسيّسة؟
1) بيئة الانقسام اللبناني ــ السوري: من اللحظة التي أعلن فيها شاكر موقفًا مؤيّدًا للثورة السورية ومعارضًا لنظام الديكتاتور بشار الأسد، دخل الملف طاحونة الاستقطاب. الجدل الراهن حول «صفقة» أو «تشديد» ليس قانونيًا صرفًا، بل سياسيًا بامتياز كما تُظهر ردّات الفعل والسجالات بعد تسليمه.
2) اختصاص القضاء العسكري على مدنيين: الهيئات الحقوقية الدولية تُجمع منذ سنوات على أن المحاكم العسكرية في لبنان ليست المكان المناسب لمحاكمة المدنيين، وتوثّق انتهاكاتٍ لإجراءات المحاكمة العادلة. عندما يُحاكم فنان مدني أمام قضاء عسكري في قضايا ذات حمولة سياسية، تتعاظم شبهة التسييس.
ما الذي ثبُت، وما الذي لم يُثبت؟
– لم يُثْبَت قضائيًا “حتى تاريخه” أن فضل شاكر “قتل عسكريين” أو “شارك مباشرة” في قتال الجيش خلال عبرا؛ بل على العكس، صدرت “براءة” عام 2018 من هذه التهمة.
– المسؤولية التي نوقشت قضائيًا تمحورت حول “الدعم والتمويل” (أحكام 2017/2020 الغيابية)، وهي تُبحث اليوم مجددًا مع سقوط الغيابيات بالتسليم وبدء إجراءات إعادة المحاكمة. وهذا بابٌ لإظهار الحقيقة كاملة بعيدًا عن ضغط المنابر.
مطلب العدالة: خريطة طريق واضحة
1) محاكمة علنية غير عسكرية: إحالة الملف إلى قضاء مدني مختص، أو على الأقل ضمانات محاكمة عادلة مكفولة، لأن محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري موضعُ انتقاد حقوقي راسخ.
2) إتاحة الملف للرأي العام: نشر قرار الاتهام، وأسباب الأحكام السابقة، ومحاضر الجلسات بقدر ما يسمح به القانون، لوقف الاستثمار السياسي والإعلامي.
3) حماية الحق في السمعة والردّ: فتح باب ملاحقة قانونية بحق الحملات الممنهَجة التي تخلط عمدًا بين «البراءة من الدم» و«اتهامات الدعم»، والتزام المنصّات بسياسات مضادّة للتضليل في القضايا الحسّاسة.
4) صون قرينة البراءة: حتى في قضايا الدعم والتمويل، العبء على الادعاء لإثبات الركن المادي والمعنوي بأدلة لا لبس فيها، لا على المتهم لإثبات العكس.
التطور القضائي الأخير يقترن بالبراءة
في تطوّر قضائي بارز يعكس ميلًا نحو فصل الملف عن الحِمل السياسي والإعلامي، أوصت الهيئة الاتهاميّة المختصة في بيروت بإسقاط تهمتين رئيسيتين موجهتين إلى فضل شاكر:
الأولى «الإساءة إلى دولة شقيقة»، نظراً لغياب الأساس القانوني الراسخ، والثانية «تمويل جماعات إرهابية/تبييض أموال» بعدما خلصت التحقيقات المالية إلى أن السجلات المصرفيّة والمعاملات الظاهرية لا تُوفِّي بمتطلّبات الركن المادي للجهة الإرهابية أو تبييض الأموال.
ويترتّب على هذا القرار “في القانون الجنائي اللبناني” أن تُحسم هاتان التهمتان في مرحلتهما التمهيدية، مما يقلّص عبء الاتهام وينقل المسار إلى مستوى المحاكمة الجزئية أو إعادة الهيئة التحقيقية ترتيب الملف تحت إشراف النيابة العامة، والجلسة المقبلة المقرّرة منتصف ديسمبر/كانون الأول 2025 ستكون محطة حاسمة لمدى ما إذا كانت النيابة ستطلب حفظاً نهائيّاً أو إحالة إلى محكمة مدنيّة مختصة.
وقد بات واضحاً أن القضاء بدأ يتعامل مع الملف كقضية جنائيّة محضّة وليس كقضية تعبئة، وهي دلالة قانونيّة على رجحان قرينة البراءة بعدما «سقط العائقُ الفني أو الإجرائي» في التهمتين المذكورتين.
البراءة حقٌّ عندما تنتصر الوقائع
فضل شاكر «جوهرة فنية» شاءت السياسة أن تُغطي بريقها بغبار الاتهامات. لكن القانون الجيد لا يعترف بالضجيج.
وقد أثبتت وثائق القضاء أن ملف الدم ليس قائمًا عليه؛ وما تبقى من اتهامات بالدعم والتمويل فمجالها محكمة عادلة لا منبرًا مشحونًا.
العدالة هنا ليست «مجاملة لفنان»، بل إنصافٌ لمبدأ عام: لا محاكمة بلا أدلة، ولا عقاب بلا يقين، ولا تسعير للانقسام على حساب الحقيقة.
إن تبرئة الرجل ممّا لم يُثْبَت عليه، ومحاسبة من لفّق وحرّض وحرّف، هي الطريق الوحيدة لإغلاق هذا الملف بما يُرضي القانون والناس معًا.
إنّنا نأمل من أعماقنا أن يرى الفنان فضل شاكر، هذا الرجل الحرّ، فجرَ حريته قريبًا، وأن يخرج مرفوع الرأس ليعود إلى جماهيره ومحبيه الذين لم يتخلّوا عنه يومًا.
فمكان هذا الصوت النبيل ليس خلف القضبان، بل فوق المنابر التي تُكرَّم فيها القيم الإنسانية والفنية.
إنّ رجلاً بحجم فضل شاكر، بما يمثله من صدقٍ ووفاءٍ ورهافةٍ، يستحقّ التكريم لا التقييد، ويستحقّ أن يُعاد إليه حقّه الطبيعي في الحياة والفن، لأنّ الأوطان التي تُنصف مبدعيها هي الأوطان التي تعرف معنى العدالة الحقيقية.
كما نأمل أن تتحرّك العدالة اللبنانية لمحاسبة كل من تجرّأ على تشويه الحقيقة وتضليل الرأي العام بحملاتٍ مغرضة نُسجت لتسييس قضية إنسانٍ وفنان.
فالقضاء، حين يُلاحق مطلقي الشائعات ويفرض هيبة القانون على من يستثمرون بالأكاذيب، إنما يُعيد الثقة بمفهوم العدالة ويُنصف الحقيقة التي حاول البعض اغتيالها بالكلمة قبل السلاح.
وقريباً إن شاء الله سوف نحتفل جميعاً بحرية فضل شاكر..