الأبعاد “الجيو – استراتيجيّة” لانتخاب #المغتربين اللبنانيين في الخارج

بقلم د. نبيل خليفة

كانت هجرة اللبنانيين إلى دول العالم مثار نقاش بين العديد من المفكّرين والمؤرّخين اللبنانيين حول دوافعها وحجمها ومصادرها ومواردها، ومدى تطابقها مع التركيبة اللبنانية في انتمائها الديني والطائفي كما في انتمائها الجغرافي على مساحة لبنان. والجدل الجاري حاليًا حول قانون الانتخاب بحيث يصوّت المغتربون إمّا لكافة نواب المجلس الـ 128 نائبًا أو لـِ 6 نواب يمثلون الانتشار اللبناني. إن المعركة الدائرة حاليًا هي امتداد لصراع قديم داخل الحياة السياسية اللبنانية نختصره كما يلي:

1- إن محوريّة الصراع في القضية اللبنانية، كانت ولا تزال حول التوازنات القائمة داخل هذه القضية وهي في الأساس ذات عمق أيديولوجي – جغرافي. فإلى جانب لبنان الكبير، كان الدور الأبرز للموارنة كدعاة وحماة لهذا الكيان. وكان وجود الانتداب الفرنسي مساعدًا على تأكيد هذه الأرجحيّة المارونيّة في السلطة بدءًا برئاسة الجمهورية وصولًا إلى مراكز السلطة. ولقد تمّ التعبير عن هذا الدور بمعادلة 6/5 كرمزية لحصة المسيحيين والمسلمين. وهكذا كان مجلس النواب مؤلّفًا من 99 نائبًا: 54 مسيحيًا و 45 مسلمًا.

قليلون، حتى الباحثون، لم يدركوا أن الحرب في لبنان عام 1975 إنما هي حرب التوازن الداخلي بين المسلمين والمسيحيين، وهو ما تحقق عبر اتفاق الطائف الذي سجّل نتائج الحرب وأولاها تأكيد معادلة المساواة بين المسلمين والمسيحيين في السلطة اللبنانية 6/6 .

ومن 108 نواب رفع العدد بضغط سوري إلى 128 نائبًا: 64/64 ومع أن السوريين لم يكونوا مرتاحين لاتفاق الطائف ذي الملامح السعودية فإنهم كانوا يفرضون رأيهم عبر السلطة الإجرائية وخارجها.

2- ظلّ في الذهن السوري قول هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي للرئيس حافظ الأسد، كما يذكر ذلك في مذكّراته، إن السيطرة على لبنان تكون بدايةً بالسيطرة على المسيحيين فيه. وهو ما اقتنع به السوريون في أثناء دخولهم إلى لبنان وممارسة السلطة فيه بمختلف الوسائل تمهيدًا لاستيعاب المسيحيين سلمًا أم حربًا. وذلك بضرب أحزابهم واغتيال شخصيّاتهم وتحجيم دورهم في السلطة. وفي هذا الإطار، يدخل موضوع تكريس الأكثرية في مواجهة الأقليّة.

3- من مؤشرات ذلك صدور مرسوم التجنيس الشهير عام 1994 لأشخاص قيل إنه… ليس لهم علاقة بلبنان… وعددهم أكثر من 120 ألفًا دفعة واحدة. ولكن مصادر أخرى ترفع هذا العدد إلى 240 ألفًا معظمهم من السوريين المقيمين في لبنان. رئيس الرابطة المارونيّة آنذاك أرنست كرم طالب بالجنسية اللبنانية للمتحدّرين من أصول لبنانية. لكن المسؤولين آنذاك لم يستجيبوا للطلب ولم يذكروا عدد الأشخاص الذين تمّ تجنيسهم في المرسوم إخفاء لجريمة التزوير فيه.

4- في كتاب بعنوان : “هجرة اللبنانيين: 1850-2018 ” للدكتور لبكي عن دار سائر المشرق 2019- وهو كتاب مرجعي في هذا الموضوع يعرض الدكتور لبكي للأسباب الدافعة إلى الهجرة ومنها: التزايد الديموغرافي وانهيار الحِرف المحليّة وفي مقدّمها الحرير، وتطوّر التعليم. ويعرض الأسباب الجاذبة للهجرة إلى بلدان معيّنة وفيها إغراء للبنانيين: الولايات المتحدة وأميركا اللاتينيّة، حيث يوجد أكثر من 250 ألف مهاجر، ولإعطاء صورة مصغرة عن عدد المهاجرين من بعض قرى البترون حيث بلدتنا حدتون، يورد السيد لبكي:

  • كفرعبيدا سكانها 317 المهاجرون منها 125
  • البترون سكانها 3550 المهاجرون منها 1000
  • كفور العربي سكانها 485 المهاجرون منها 112
  • بشعله سكانها 463 المهاجرون منها 462
  • حدتون سكانها 149 المهاجرون منها 84

5 – من المنطقي أن يتناول أي بحث حول المنتشرين في العالم تأثيرهم في الحياة اللبنانية. فبالإضافة إلى مشاركتهم في النهوض بالاقتصاد اللبناني من خلال مساهمتهم المادية في إرسال الأموال إلى ذويهم في لبنان بشكل مستمرّ، فإنهم وجدوا مع الزمن أن لديهم مهمة وطنية في لبنان عليهم القيام بها وهي المشاركة في إرساء أسس الحياة السياسية في لبنان من خلال مشاركتهم في الاقتراع لانتخاب مجلس النواب اللبناني، وهكذا ولدت فكرة اقتراع المغتربين ولاقت تأييدًا من الجانب المسيحي وتحفظًا من الجانب الإسلامي. ويعود الأمر كما ذكرنا آنفًا إلى ميزان القوة والتوازن داخل تركيبة السلطة الحاكمة في لبنان. والوضع الحالي في وطن الأرز هو صورة عن هذا الصراع التاريخي الجغرافي- الأيديولوجي حول لبنان: الكيان الدولة والإنسان. إن فئة من اللبنانيين معروفة بالثنائي ترفض أن يدلي المغتربون بأصواتهم لجميع نواب المجلس لأن هذا التصويت سيشكّل رافعة للجانب المسيحي، بفعل التفوّق الديموغرافي المسيحي لدى المغتربين. وهكذا عدنا إلى ما بدأنا به هذه الدراسة وهو التوازن داخل التركيبة اللبنانية. خاصة وهناك داخل السلطة من يستعمل دوره كديكتاتور سلطوي في أمر ذي طبيعة قانونية بحتة. هذا يعني عمليًا أن هناك من يخرق الدستور ويؤدي إلى حالة فوضوية خارج الأصول والأحكام الدستورية والقانونية واتفاق الطائف. إن المهاجرين هم لبنانيون أصيلون ولم يدخلوا إلى الحياة السياسية اللبنانية “بقانون تجنيس” مزوّر بل بانتخابات نيابية أمام العالم أجمع وعلى رأس السطح. فما هي الجريمة التي ترتكبها القوى السيادية في لبنان حين تطالب “بمنح المغتربين اللبنانيين حق الاقتراع في دوائرهم الانتخابية”؟

إن في الموقف الذي تقفه بعض الجهات من هذا الموضوع تعسّفًا وخروجًا على القانون والدستور، واستهانة بقوّة شريحة بشرية تمثل بحسب آخر الإحصاءات العلمية الدولية 12 مليون شخص Diaspora.

في الخلاصة، إن ما يجري أمر شديد الأهمية والخطورة لأنه يتناول العديد من القيم والمبادئ الفكرية والسياسية وخصوصًا الدستورية.

بشأن لبنان:

– إنه يعكس الخط التاريخي الذي سارت عليه بعض الجماعات منذ نشوئها وهو خطّ يناهض الديمقراطية ويتبنى الديكتاتورية في الرأي والعمل.

– هذا المسار التاريخي المعروف والواضح أدّى إلى عزل وانعزال هذه الجماعة داخل السياق التاريخيّ ووضعها في عزلة قاتلة.

– تسعى هذه الجماعة، للتعويض عن عزلتها باعتماد المواقف التصعيديّة كدليل على القوّة في حين أنها دليل على الفشل والضعف.

– هناك شعور لدى هذه القوى بوجود تأثير متزايد لدى المغتربين على الواقع السياسي العام في لبنان.

– وهناك شعور أيضًا بإمكانية بروز قوى جديدة داخل الجماعة تؤثر في احتكار تمثيلها سياسيًا وعسكريًا.

والحقيقة التي ينبغي أن تبقى راسخة في الأذهان حول اقتراع المغتربين هي أن اللبناني يبقى لبنانيًا سواء أقام في لبنان أم أي مكان آخر بالعالم. وحق الاقتراع حقٌ وطني بامتياز ولذلك، فالخوف إذا وقع بين الباحثين والسياسيين لن يكون على حق المغتربين بالاقتراع ولكن على كيفيّة ممارسة هذا الحق.

والبوصلة الدائمة التي تقود ويجب أن تقود جميع اللبنانيين في العمل الوطني هي أن لبنان بلد رمز (ٍSymbol). ولذلك يبقى الوضع الأوحد للبنانيين في جميع بلدان الانتشار.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com