الضغوط تتكثف نحو إعادة تعريف علاقة لبنان بـ”إسرائيل”

بقلم داود رمال

يتضح يومًا بعد يوم، أن لبنان بات ساحة اختبار جديدة لمعادلات ما بعد الحرب في الإقليم، وأن الضغوط عليه تتجاوز حدود المطلب السياسي إلى محاولة إعادة صياغة موقعه ضمن منظومة الأمن الإقليمي. فالموجة المتلاحقة من الرسائل الأميركية والأوروبية إلى بيروت لم تعد تخفي مضمونها الحقيقي والصريح، وهو دفع لبنان نحو التفاوض المباشر مع إسرائيل، باعتباره المدخل الإجباري لفكّ العزلة، واستعادة الدعم المالي والاقتصادي، والحصول على مشاريع الطاقة والإعمار التي وُعد بها منذ سنوات.

الخطاب الغربي الجديد لا يقدّم اقتراحات بل يفرض شروطًا، ويُرفقها بعبارات “التحفيز” التي تحمل في باطنها لغة الإكراه وهي، إما تفاوض مباشر وإما انقطاع كامل في المساعدات والانخراط الدولي.

تحت هذا السقف من الضغط، يحاول لبنان أن يتعامل بواقعية من دون أن يُسقط مبدأ الرفض التاريخي لأي تواصل مباشر. فرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، إدراكًا منه لخطورة المرحلة، اختار الردّ بطرح صيغة تحفظ الشكل والمضمون معًا، عندما أعلن الاستعداد لتفاوض يدار تحت مظلة الأمم المتحدة وبرعاية دولية، على غرار تجربة ترسيم الحدود البحرية التي أثبتت فعاليتها في حماية الحقوق اللبنانية، من دون انزلاق نحو التطبيع. لكنه ربط هذه الصيغة بشرطين جوهريين وهما: وقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، والالتزام الصارم باتفاق وقف الأعمال العدائية. بهذا الطرح حاول رئيس الجمهورية أن يقطع الطريق على الضغط الدبلوماسي، من دون أن يغلق الباب أمام أي مسار تفاوضي مشروع يستند إلى مرجعية القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن.

إلا أن ما يوازي هذا الضغط لا يقلّ خطورة؛ التهديد بانتهاء مفاعيل القرار 1701 في نهاية عام 2026، مع ما يعنيه ذلك من نهاية ولاية قوات الطوارئ الدولية المعززة (يونيفيل)، وهذا الأمر بمثابة ورقة ضغط استراتيجية. فغياب هذه المظلة، قد يضع الجنوب في مواجهة مباشرة مع احتمالات الانفلات الميداني، ويفتح الباب أمام فرض أمر واقع أمني جديد تحت شعار “الفراغ لا يُترك”. والرسالة هنا واضحة؛ إما القبول بتفاوض ينقل لبنان إلى مرحلة “سلام مستدام” وفق الرؤية الإسرائيلية، وإما مواجهة العزلة الدولية والفراغ الأمني في آن واحد.

في المقابل، تُطرح بهدوء أفكار ظاهرها تقني وباطنها سياسي، أبرزها توسيع صلاحيات الميكانيزم المعنية بمراقبة وقف الأعمال العدائية، عبر تفريعها إلى لجان متخصصة تضمّ مدنيين لبنانيين وإسرائيليين، بهدف تطوير التنسيق الميداني والحدّ من الحوادث الحدودية والبحث في الجوانب ذات البعد التقني والقانوني، لا سيما ما يتصل بتثبيت الحدود البرية. لكن هذا الاقتراح ينظر إليه من جهات لبنانية على أنه يُخفي نزعة خبيثة لتطبيع تدريجي تحت غطاء أممي. إذ إن إشراك مدنيين لبنانيين في لجان تنسيقية مع الإسرائيليين، ولو عبر الأمم المتحدة، يشكّل عمليًا نقلة نوعية من “التنسيق الأمني غير المباشر” إلى “التواصل المؤسسي المقنع”، أي فتح ثغرة قانونية وإنسانية تسمح بمرور التطبيع تحت عنوان “التهدئة”.

الأبرز، أن مضمون بعض الرسائل الغربية يحمل إحياءً غير معلن لروح اتفاق 17 أيار 1983. فإسرائيل، وفق ما تنقله هذه الرسائل، لا تريد العودة إلى اتفاقية الهدنة لعام 1949 التي تؤكد حالة العداء، بل تبحث عن صيغة “علاقات جديدة” تتجاوز حدود الأمن إلى السياسة والاقتصاد. وهذا التحوّل، إذا ما فُرض، يعني عمليًا إدخال لبنان في هندسة إقليمية جديدة يكون فيها الترتيب الأمني مقدمة لاتفاق سياسي طويل الأمد، أي “سلام مشروط” ينسف كل فلسفات الردع القائمة منذ عقود.

في هذا السياق، تبدو الدولة اللبنانية مطالبة بإدارة دقيقة لهذا الاشتباك الدبلوماسي، بحيث تجمع بين تثبيت الموقف السياسي الرافض لأي تواصل مباشر وبين الحفاظ على خطوط التماس المفتوحة مع الأمم المتحدة والوساطة الدولية. فالمطلوب صوغ استراتيجية مزدوجة تقوم على حماية القرار 1701 بوصفه الإطار القانوني الوحيد القادر على كبح الانزلاق إلى المجهول. وفي الوقت نفسه، التحسّب لمحاولات تعديله أو تجاوزه بذرائع “التطوير”. لأن ما يجري اليوم، هو عملية ضغط متدرجة لفرض واقع جديد على لبنان يُلغي المسافة بين التهدئة والتطبيع. والتعامل مع هذه المرحلة لا يكون بالبيانات ولا بالمواقف الانفعالية، بل عبر إدارة سياسية محسوبة، تدرك أن كل تراجع في الموقف السيادي سيُترجم لاحقًا بندًا تفاوضيًا جديدًا لمصلحة إسرائيل، وأن حماية الخط الأزرق سياسيًا لا تقلّ أهمية عن حمايته ميدانيًا عبر الشرعية اللبنانية وحدها ممثلة بالجيش اللبناني.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com