هكذا خسر الأستاذ لقبه أمام الحكيم

بقلم ماريو ملكون

أخطأ رئيس مجلس النواب نبيه بري عندما أدلى بحديث صحفي، في 2 شباط 2016، جاء فيه “جعجع يجلس فوق (أي في معراب) ويتسلّى بنا”، ويُخطىء اليوم مَن يُردّد العبارة نفسها لتوصيف نجاح الخيار الذي اتّخذه رئيس “القوات” في مقاطعة جلسة الثلثاء التشريعية، والأمر يعود إلى أنّ جعجع، وعكس ما دأب محور الممانعة، وفي مقدّمته الرئيس بري، على تسويقه، لا يُقارب الأمور من باب التسلية أو توابعها من “النكاية” وردّات الفعل و”ردّ الصّاع الصّاعين”، بل جُلّ ما في الأمر، أنّ جعجع يتسلّح بالمنطق وأعوانه، أي حكم الدستور والقانون و”اتجاه التاريخ” كما يُردّد دائمًا، وهو ما جعله قادرًا على تسجيل النقاط تلو الأخرى، وعلى اسقاط تهمة “الرهانات الخاطئة” واستبادلها بواقعة الخيارات الصائبة، بحكم الثوابت الموثّقة.

المواجهة الوطنية بين بري وجعجع، لم تبدأ اليوم، بل تعود أدراجها إلى زمن انهيار الدولة، يوم اصطفّ أبو مصطفى جانب الميليشيات غير اللبنانية ومشاريعها البديلة والتوسعية، بوجه اصطفاف جعجع وأسلافه إلى جانب التمسّك بهويّة الأرض وحرّية الانسان فيه، وقد دار الزمن دورته، ليصحّ خيار الحكيم ويسقط خيار “النبيه”، مع سقوط مشروع “الوطن البديل” للفلسطينيين، وسقوط مشروع “محافظة لبنان” للسوريين، وسقوط مشروع الالتحاق بالجمهورية الاسلامية للايرانيين، مقابل التقدّم الأكيد لمشروع الدولة وحصريتها في امتلاك السلاح وقرار الحرب.

الطّامة الكبرى في مسارات رئيس مجلس النواب كانت في تشكيله حجر الأساس لقيام “شبه الدولة” يوم انقلب مع بوتقة من الممانعين على اتفاق الطائف، وسار معهم في بيع مشروع الدولة إلى السوريين، الذين عاثوا اجراماً في تفتيته، بينما كان قائد “القوات”، الرجل الوحيد الذي سار في الاتجاه المعاكس، متمسّكًا بالدستور، فسلّم السلاح لأجل قيام الدولة، ورفض الانخراط في تقاسم السلطة والنفوذ لعدم تخلّيه عن مبادئه في سيادة الدولة، فكان معتقل الجسد، حيث اتّهمه كُثُر بالجنون، كونه يُراهن على بصيص نجاة وسط الأفق المسدود، لكنّه، وباعتراف الخصوم، على مضض، كان على حقّ.

خطأ بري أمام صوابية جعجع، امتدّ مع اصراره في الركون في خط الممانعة بعد ثورة الأرز عام ٢٠٠٥، واعتباره أنّ النّهج الذي اتُّبع بعد التفافه على اتفاق الطائف، باستطاعته أن يستمرّ به، وقد سارع إلى تتويج رهانه هذا، لدى فتح أبواب المجتمع العربي أمام بشار الأسد في قمّة جدة – أيار 2023، حيث روّج الرئيس بري واعلامه إلى سقوط رهانات جعجع، في حين ظلّ الأخير يُجاهر برأيه وقد قال في 23 نيسان من العام نفسه “أنا لست مع التقرب من بشار الأسد، فبنظري هو “جثة” موجودة على رأس النظام السوري ولا يمكنه القيام بأي شيء.”، وبالفعل أصاب الحكيم في موقفه وقد جاء 8 كانون الأول 2024 ليُتوّج صحّة الخط الذي اتّبعه جعجع وسقوط رهان الخط المضاد على محور المشاريع العبثية، وقد قال رئيس “القوات” في ذاك اليوم الاستثنائي “هذا يوم خزي وعار لكل من جامل نظام الأسد من أجل بعض المكاسب الرخيصة. فليختفوا عن الشاشات وليطأطئوا رؤوسهم خجلاً وذلاً.”

وأخطأ بري مرّة جديدة، في ظنّه أنّه يستطيع أن يُواصل تكريس سطوته على المؤسسات الرسمية، عبر المواظبة في انتهاج “حكم الأرانب” تارةً لتمرير ما لا يُمرّر وطوراً لطمس ما لا يُطمس، مع تجديده الذهاب نحو بدعة مكرّرة نسبها زوراً إلى الدستور، عشيّة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حينما أكّد أنّ “لا انتخابات رئاسية قبل انعقاد طاولة حوار برئاسته”، وقد كان جعجع رأس حربة الدفاع عن الأصول الدستورية المعتمدة، رافضاً تكريس “هرطقة الحوار قبل الرئاسة”، وقال في 12 تموز 2023 “البلد مش رح يمشي متل ما بدّو حزب الله، بدنا نمشي حسب الدستور ونصل إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية.”، وهكذا كان، حيث أنجز انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً دون طاولة ودون حوار ودون بدع من خارج الأصول، ليسقط مطلب بري ويُصيب موقف جعجع.

ومن الأمثلة الحديثة، التي سقطت خلالها معادلات رئيس حركة أمل أمام مبدئيات رئيس “القوات” – بعد أن سقطت المعادلات العسكرية والأمنية والسياسية لحليف الأوّل – هي انقلابه على انتظام العمل المؤسساتي، عبر تخطّيه الدستور والنظام الداخلي للمجلس النيابي والأعراف المتّبعة في طرح اقتراحات القوانين المعجّلة المكرّرة على جدول أعمال الجلسات النيابية، واستطرادًا انقلابه على حقّ الأكثرية النيابية في ممارسة دورها التشريعي، واصراره على السّير بالجلسات التشريعية وكأنّ شيئاً لم يكن، ليأتيه تصدّي سمير جعجع والقوى النيابية الرافضة لهذا التفرّد الاستنسابي، عبر تطيير نصاب ثلاث جلسات متتالية، رفضاً لمصادرة الرئيس بري للمجلس وإرادة نوّابه ودورهم.

على عكس ما يحلو لاعلام الممانعة التسويق، لا يمارس سمير جعجع و”القوات” عملية فرض على القوى النيابية الرافضة لاستناسبية الممانعين وكيديتهم، ولا يقومون بجرّهم إلى حيث تشاء معراب، ولا بمصادرة قرارهم، وقد جزم جعجع في مقابلة إعلامية بأنّ ما تحقّق هو عمل جماعي لقوى معارضة لذاك النهج.

إنّ قدرة جعجع على تحوّله عامل جذب حتى لِمَن لا يُحبّذون الانجذاب خلف القوى العريضة، أنّ خطابه سليم في الشكل والمضمون، يعتمد على الدستور والقانون والمنطق والوقائع، ولا يلجأ لا إلى تهويل ولا فبركات ولا أوهام ولا خزعبلات، وهنا تماماً نجح الحكيم بأن يخطف لقب “الأستاذ” من رئيس السلطة التشريعية، “خطفه دون أن يُنَيشن عليه”، مفتاح نجاحه كان أنّه استند إلى “النصّ”، إلى “الكتاب”، فلم يبتدع لا أرانب ولا قبّعات.

بين رهانات ومبدئيات جعجع التي تُصيب، وبين معادلات ومشاريع خصومه التي تتهاوى، لا يكمن الأمر لا في تسلية ولا في ألقاب، بل إنّ دولة تتشكّل، ما يقتضي مواجهة كلّ مَن يُعرقل قيامها أو يُسهم في بطء سيرها، حتى لو كان موكلاً النطق بإسمها. هذا ما يفعله جعجع، وهذا ما ينتظره الشعب اللبناني التوّاق للخروج من لعبة الأرانب والأصنام و”نواطير مصر” وتسويات اللحظات الأخيرة.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com