استمرار الدويلة على أنقاض الدولة
بقلم جوسي حنّا
لقد أفضى وجود الدويلة داخل كيان الدولة إلى انحلالٍ ممنهج للسيادة الوطنية وتحويل الدولة من مرجعيةٍ عليا وجامعة إلى مجرد غطاءٍ هشٍّ يُدار من خلفه مشروع موازٍ لا يعترف بحدود ولا بقانون. فالدويلة لم تُبنَ لخدمة الوطن، بل لابتلاعه، ولم تُسلَّح لحمايته، بل لفرض إرادتها عليه.
لقد أنتجت الدويلة اقتصادًا موازياً، أمنًا موازيًا، وولاءً موازياً، حتى صار كل ما هو “رسمي” شكليًا، وكل ما هو “فعلي” بيدها. أفرغت المؤسسات من مضمونها، عطّلت القضاء، همّشت الجيش، وأقامت شبكة مصالح تتغذّى من ضعف الدولة وتستمد قوتها من فوضاها.
وجود الدويلة لم يُفضِ إلا إلى تحلّل الدولة وتكريس التبعية، التبعية لها ولمشغليها. فبدل أن يكون القرار الوطني نابعًا من مصلحة عامة، بات مرهونًا بحسابات قوة الأمر الواقع، التي لا ترى في الوطن سوى مساحة نفوذ، وفي المواطن أداة للابتزاز السياسي أو وقودًا لمعارك تخوضها بالوكالة عن المهيمن عليها سياسيًا وعقائديًا وماديًا….
غياب الدولة ليس فراغًا سياسيًا فحسب؛ إنه انهيارٌ شامل في منظومة القيم والهوية والمصير. حين تغيب الدولة، يتحول السلاح إلى شريعة، والطائفة إلى وطنٍ بديل، والقائد الميليشياوي إلى “مرجعية” تقرر من يعيش ومن يُقصى.
غياب الدولة يفتح الطريق أمام التقسيم الواقعي، حيث تُدار الجغرافيا بمنطق “المناطق المحررة” لا الدولة الواحدة. وحين تُصبح مؤسسات الدولة تابعةً لميزان القوى الميدانية، تنهار فكرة العدالة، ويُمحى معنى المواطنة.
الدولة الغائبة ليست دولة ضعيفة فقط، بل دولة مُستسلمة، تكتفي بدور المتفرج على تقاسمها. ومع استمرار هذا الغياب، يصبح الوطن مسرحًا لتصفية الحسابات الإقليمية، وتتحول الجماهير إلى رهائن، والسيادة إلى شعارٍ يُرفع عند الحاجة ثم يُلقى في سلة التفاهمات الخارجية.
إن غياب الدولة يعني ببساطة أن الدويلة تنتصر، والوطن يختفي.
حضور الدولة الحقيقية لا الشكلية هو الشرط الوحيد لبقاء الوطن. فالدولة القادرة لا تُساوم على سيادتها، ولا تشارك سلطتها مع كياناتٍ موازية. حضور الدولة يعني نهاية منطق العصابات، وإعادة تعريف الولاء على أساس المواطنة لا المذهب ولا الحزب.
حين تستعيد الدولة قرارها، ينكسر احتكار الدويلة للسلاح، وتنتهي ثقافة “المناطق المحصّنة”، ويُستعاد القانون كأعلى سلطة. الدولة الحاضرة لا تخاف من محاسبة من تجاوز، مهما علا شأنه، لأنها تعرف أن العدالة هي مصدر هيبتها.
إن عودة الدولة ليست مجرد شعار إصلاحي، بل معركة وجودية بين من يريد وطناً واحداً ومن يريد إماراتٍ متناثرة تحت وصاية الخارج. الدولة الحقيقية لا تُهادن مشروع الدويلة، بل تُنهيه، لأنها تدرك أن السيادة لا تُقاسم، وأن السلطة لا تُشارك إلا في مؤسساتها الشرعية.
فهل سنستمر بمهادنة الدويلة حتى تُعلن موت الدولة رسميًا، أم سنستعيد الدولة قبل أن تُدفن بسيادتها وكرامتنا معًا؟