التجربة #الشهابية و”التغييريون” : متى إلغاء #الطائفية السياسية؟

بقلم عايدة الجوهري

تشرين الأول هو شهر الحديث عن التغيير في لبنان، لأنّه الشهر الذي هبَّ فيه اللبنانيون في 17 منه، هبّةً واحدةً، للمطالبة بتغيير واقعهم المزري، رافعين شعارات شتى مشتّتة، يتعذّر حصرُها، وهنا أحد مكامن الخلل، وكانوا عمومًا يتخوّفون من رفع سقف المطالب، ظنًّا منهم أنّ الإصلاح ضمن النظام الطائفي التحاصصي المتجذّر، ممكنٌ وجائزٌ، غير أنّ الوقائع التاريخية والحالية، لا تلبث أن تؤكد عدم صحة هذه الفرضية، والشاهدُ على ذلك تجربة فؤاد شهاب الإصلاحية (1958-1964) الفريدة، التي وسمت التاريخ اللبناني الحديث بميسمها.

والدروسُ التي نستخلصها من تجربة فؤاد شهاب ليست أحاديةَ الجانب، بل متعدّدة، منها أهمية بناء الدولة على المؤسسات لا على الأشخاص، وأنّ العدالة الاجتماعية شرطٌ للاستقرار الوطني، وأنّ الحياد الإيجابي ضرورةٌ تنمويةٌ وأمنيةٌ، وأنّ الطائفية تقف عقبةً في وجه الإصلاح، وإنّنا معنيّون بالدروس الثلاثة، ولكنّها كلّها مترابطة، وتتعارض مع الطائفية السياسية. فما هي أبرز ملامح مشروعه؟ وما الذي أعاق السير به إلى نهاياته؟

كان هدف فؤاد شهاب الرئيس تكوين مجتمع يسوده القانون، وتحقيق الإجماع حول مفهوم الدولة ومؤسساتها، كمرجع أساسي يرجع إليه اللبنانيون لا الزعيم الزبائني، الذي يستقطب الناس عبر خدمات ينتزعها من الدولة، بغية ضمان تبعية ناخبيه، وأنصاره، وولائهم، ما من شأنه أن يؤدي إلى استبدال منطق الحق الذي تضمنه الدولة للمواطن بمنطق العطاء والهبة، بقطع النظر عن انتماء هذا المواطن السياسي أو الطائفي أو المناطقي، فالمؤسسات التي تعمل بشكل سليم تُحرّر الفرد من التبعية للزعيم وتجعل منه مواطنًا، غير مرتهن في قراره السياسي لهذا الحزب أو ذاك.

قامت سياسة فؤاد شهاب الإصلاحية على ركيزة أساسية، وهي تصميم الدولة على التدخل في المجالات كافة، بغية سدّ حاجات المواطنين من دون وسيط، عشائري أو طائفي.

تصدّى شهاب لاستغلال الإقطاع السياسي الطائفي لوظائف الدولة وخدماتها، وتوظيف الأنصار والمحاسيب، ما أدى إلى تفشّي الفساد والرشوة والمحسوبية والزبائنية، والافتقار إلى الكفاءة الوظيفية، والتنظيم والتخطيط، والنزاهة، فعمل على اكتشاف مكامن الخلل في الإدارة، وأخضع التوظيف لمعايير الكفاءة والأداء الوظيفي، وللمراقبة والمحاسبة، فتأسّس في عهده مجلس الخدمة المدنية، التفتيش المركزي، المجلس التأديبي، هيئة التفتيش القضائي، من دون أن يمسَّ بمبدأ التوزيع الطائفي على قاعدة 6 و 6 مكرر، في جميع وظائف القطاع العام من الدرجة الأولى.

وميّزت عهد فؤاد شهاب سياسات الإنماء المتوازن بين المناطق والطوائف، مسترشدًا بمفهوم “العدالة الاجتماعية”، ساعيًا إلى إعطاء مفهوم “الميثاقية” مضمونًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا، يتخطّى مبدأ تقاسُم السلطة بين الطوائف، مركّزًا على تنمية الأطراف، البقاع، الجنوب، الشمال، ومدّ القرى النائية بالخدمات الأساسية من كهرباء وماء وطرقات، ومدارس وغيرها من خدمات إنمائية، ضمن خطة شاملة لرفع مستوى معيشة الفقراء وسكان الأطراف، وقال ذات يوم شارحًا أهدافه من هذه التدابير:

“إنّ الحاجات الأساسية للبنانيين المفروض في الدولة تأمينها، وأن تشير إليهم كحقوق لا كهبات، وتصل إليهم مجردة من المنّة، لا يمليها تمييز ولا يشوبها تفريق” [1].

لتحقيق رؤيته الإصلاحية، عكف شهاب على إنشاء مؤسسات تُوسّع أدوار الدولة، وترمي إلى تنظيم الإدارة وتفعيلها وتنمية الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية، وتحسين حياة الناس اليومية، في آن، ومن ضمن المؤسسات التي أنشأها والتي ما زالت قائمة إلى اليوم: مجلس الخدمة المدنية، التفتيش المركزي وديوان المحاسبة، كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، مجلس التخطيط والإنماء الاقتصادي، مصلحة الإنعاش الاجتماعي، معرض طرابلس الدولي، مجلس تنفيذ المشاريع الكبرى لمدينة بيروت، مكتب الفاكهة، مكتب القمح، المجلس الوطني للسياحة، المجلس الوطني للبحوث العلمية، المشروع الأخضر، مصرف لبنان المركزي، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، مديرية الشباب والرياضة، المخطط التوجيهي العام لضواحي بيروت، تعاونية موظفي الدولة، المعهد الموسيقي الوطني، مدارس رسمية للتعليم المهني والتقني، هذا إضافةً إلى إقرار قانون تنظيم التعليم العالي، وقانون التنظيم المدني الشامل بكل لبنان، وقانون النقد والتسليف، ووضع نظام المناقصات، وتنظيم معهد المعلمين العالي، وتنظيم عمل الأجانب، وإعادة تنظيم مجلس القضاء الأعلى ومجلس شورى الدولة ومعهد الدروس القضائية، وإعادة تنظيم مصالح المياه والكهرباء في المدن والمناطق وإنشاء مصلحة كهرباء لبنان، وغيرها من المشروعات، إلى جانب النصوص التنظيمية التي ما زالت تُعَدّ حتى اليوم المدماك الذي بُنيت عليه مؤسسات الدولة اللبنانية الحديثة وأجهزتها الإدارية المتعددة.

تشتّتت المؤسسات التي بناها فؤاد شهاب وتأثّرت بالسياسة الطائفية التحاصصية، حيث أدى تسييس هذه المؤسسات وإخضاعها لمشاريع الطوائف وأهوائها، إلى إضعاف كفاءتها ومصداقيتها.

ارتطمت رؤية شهاب الإصلاحية بالطبقة السياسية التقليدية المتكلّسة، بتلك الفئة من السياسيين الساعين إلى اقتطاع حصص لهم من مصالح الدولة ومواردها، والمستقوين بالعصبيات الطائفية، وبادعائهم النطق بحقوق الطوائف التي يُمثّلونها، والذين نعتهم فؤاد شهاب تارةً بـ Les Fromagistes، أكلة الجبنة، وتارةً أخرى بـLes Politicards، أو الدساسين [2]، الذي يدأبون على حياكة المكائد والمؤامرات، مبرزًا الحدود الأخلاقية التي تفصل بينه وبينهم، وكان هذا الفارق مصدرَ ازدرائه لتلك الطبقة برمّتها، وإن وجد نفسه ملزمًا فيما بعد بالتعاون معها.

وعبّر فؤاد شهاب عن الصعوبات التي واجهها في تحقيق مشروعه الإصلاحي مرّتين، في المرة الأولى عندما أعلن قرارَه الاستقالة، وفي المرة الثانية عندما رفض تجديد ولايته.

ففي 20 تموز 1960 وجّه الرئيس فؤاد شهاب رسالةً إلى رئيس مجلس النواب آنذاك صبري حمادة يُعرب فيها عن رغبته في الاستقالة، معتبرًا أنّ مهمته انتهت وأنّ البلاد استعادت عافيتَها، وأنّ الانتخابات النيابية قد أُنجزت، وأنّ العلاقة مع المنطقة وتحديدًا مع مصر جمال عبد الناصر قد صُحّحت.

ولكنّ التحليلات السياسية أجمعت على أنّ السببَ الحقيقي وراء استقالته، هو أنّه توخّى من الإصلاحات السياسية والإدارية التي وضعها، أن تُفرزَ الانتخابات التي جرت عام 1960 طبقةً سياسيةً شفافةً وأكثرَ حداثة وفهمًا لحاجات لبنان، إلا أنّه ظنَّه خاب مع عودة الطبقة التقليدية، فأيقن أنّ الإصلاح والتحديث مستحيلان مع عودة الطبقة التقليدية.

غير أنّ هذه الطبقة ذاتها مارست ضغوطًا هائلةً على شهاب كي يعودَ عن استقالته، فبدا موقفها مغايرًا لممارساتها العملية، ولكنّ موقفَها المفارق لم ينطلِ على شهاب الذي أسرَّ إلى فؤاد بطرس بـ “أنّهم جميعًا أرغموني على العودة عن الاستقالة حتى لا ينهار الوضع ومعه مصالحهم، لكنّهم لن يتركوني أحكم بقناعاتي” [3].

ولكنّه في المقابل رفض عام 1964 تجديد ولايتَه، رغم تحفيز الطبقة السياسية له على الترشُّح، لأنّه كان هذه المرّة قد فقد صبرَه، ومعه الأمل بالتغيير الحقيقي بوجود هذه الطبقة.

تقبّلت الفئات الحاكمة الإجراءات الإصلاحية التي قام بها فؤاد شهاب، على مضض، حيث لم تكن هذه الفئات مقتنعةً بتعديل بنية النظام وضبطه وكفّ يدها عن التدخُّل في الإدارة، واعتماد هيئات التفتيش والرقابة والمحاسبة، وتحسين أوضاع الفقراء ومحدودي الدخل، وإنعاش المناطق المحرومة، وغيرها من الإصلاحات، وكانت تميل إلى تقليص دور الدولة في القطاعات الاقتصادية والمالية والمصرفية، وحريصة على أن تبقى هذه القطاعات تحت إمرتها.

إنّ المرارةَ التي انتهت بها تجربة فؤاد شهاب الإصلاحية، لَدليلٌ دامغٌ على عقم أي إصلاحات إدارية أو مؤسساتية تجري في ظلّ النظام السياسي الطائفي القائم، لأنّ الفساد الطائفي لا بدّ أن يعكسَ نفسه وينقل عدواه إلى أرقى وأفضل المؤسسات التي يُمكن أن تنشأَ في كنفه، فالبنية السياسية الفوقية أعلى من جميع البنى الإدارية والمؤسساتية، التي هي دونها قدرةً وصلاحياتٍ.

تُؤكّد تجربة فؤاد شهاب أنّ أيَّ شكل من أشكال الإصلاح، يحتاج إلى أن نتعاملَ مع المسألة الطائفية والنظام الطائفي القائم أصلًا على أولوية حقوق الطوائف و”قدسيتها”. وحاول شهاب التعاملَ معها كأمر واقع، بأن أوجد العدالة الطائفية في الإدارة، فكرّس الـ6 و 6 مكرر، وقلّل بذلك من حصّة الموارنة في الحكم، ولكنّ هذه العدالة لم تكن كافيةً للجم الجموح الطائفي التحاصصي، كما أنّه راهن على قانون الستين الانتخابي للإتيان بطبقة سياسية جديدة، غير أنّ الأمل بظهور طبقة سياسية لا يستوي ولا يستقيم مع المراهنة على قانون انتخابات نيابية تعتلي صهوتَها الأحزاب الطائفية الأخطبوطية.

نحن نستعيد سيرةَ فؤاد شهاب بشيء من التوسُّع، لأنّ اللبنانيين يعيشون شبهَ قطيعة معرفية مع تاريخ لبنان الحديث، فلا يتبحرون في الأحداث والوقائع السياسية التي تلت تأسيسه وسبقت الحرب الأهلية، فينصبّ تفكيرهم على مرحلة الحرب الأهلية (1975-1989) وما بعدها، وكأنّ تاريخ لبنان يبدأ مع الحرب الأهلية وما تلاها، فلا يتعرفون إلى نماذج سياسية صالحة للاتعاظ، والتفكير، والتأمل، والاستشهاد.

ونحن نستعيد الإنجازات الإصلاحية التي نراها، وتراها شريحة واسعة من اللبنانيين، رئيسةً وحاسمةً في مرحلة الحكم الشهابي، إذ أثبتت هذه التجربة الفريدة أنّ لبنانَ الكبير الذي تأسّس عام 1920 ليس خطأً، بل قابل للتنظيم والانتظام والهيكلة، في إطار دولة حديثة تعتمد التخطيط العلمي، وتُعنى بالشؤون العامة عنايةً شاملةً، وتسعى إلى سدّ حاجات المواطنين الأساسية، من دون تمييز أو مفاضلة.

إنّ تجربة فؤاد شهاب الفريدة، وغيرها من المحاولات الجزئية، تحثّنا على التفكير باستحالة تجاوُز المسألة الطائفية، فكيف يتجاوزها أو يُؤجّل البت فيها منظّرو وقياديّو قيادة 17 تشرين، فلا ينادون بتطبيق الإصلاحات السياسية الواردة أصلًا في الدستور اللبناني ذاته، والتي يُفقد عدم تطبيقها بعد مرور 35 عامًا على “وثيقة الطائف”، ممثّلي الشعب الحاليين مشروعيَّتَهم؟

لعلّ التغييريين الحالمين بنظام قائم على مبدأ المواطنة وقعوا في فخّ الخطاب السياسي الفوقي، الذي حوّل مطلب إلغاء الطائفية السياسية إلى فزاعة تبتزّ بها الطائفة الأكبر الطوائف الصغرى، وتُهدّدها بالهيمنة العددية، وكأنّ إلغاء الطائفية السياسية لا يُحتّم خلقَ أحزاب مدنية، عقيدةً وتكوينًا، على أن تختصّ الأحزاب الطائفية بمجلس الشيوخ، وإلا ما الفائدة من إلغاء الطائفية السياسية، أو من خلق مجلس الشيوخ، وماذا عنى الدستور في مادته 22 من جملة “مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلسٌ للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية”.


[1] نقولا ناصيف، جمهورية فؤاد شهاب، دار النهار، بيروت 2008، ص389.
[2] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[3] المصدر نفسه، ص220.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com