خاص بوابة بيروت

كاتب ومحلل سياسي
يعيش لبنان اليوم إحدى أكثر مراحله التاريخية قتامة، حيث لم يعد مأزوماً فقط اقتصادياً أو سياسياً، بل دخل مرحلة تفكّك الدولة نفسها. فالمشكلة لم تعد في غياب السياسات أو ضعف الكفاءة، بل في هيمنة منظومة السلاح والفساد التي أحكمت قبضتها على مؤسسات الدولة، فحوّلتها من أداة لخدمة المواطن إلى وسيلة لابتزازه وتقسيم الوطن إلى محميات طائفية وزبائنية.
هذه المنظومة لم تكتفِ بإفراغ المؤسسات من مضمونها، بل أعادت تعريف الدولة وفق مصالحها، حتى باتت الأولويات تُرسم بما يخدم استمراريتها لا بما يضمن بقاء الوطن. هكذا تحوّل لبنان إلى ساحة صراع مصالح، لا دولة مواطنين متساوين.
الفشل كحقيقة بنيوية: دولة بلا سيادة ولا مؤسسات
حين وصف المبعوث الأميركي إلى سوريا توماس باراك لبنان بأنه “دولة فاشلة”، لم يكن يطلق حكماً سياسياً متسرعاً، بل عبّر عن واقع ماثل أمام الجميع. فبحسب تقرير مجلس العلاقات الخارجية الأميركي (CFR)، تتوافر في لبنان معظم مؤشرات “الدولة الفاشلة”: انهيار اقتصادي شامل، فساد ممنهج، مؤسسات عاجزة، واحتكار السلاح من قبل قوى غير رسمية. وتشير دراسات بحثية متقاطعة إلى أن تزايد نفوذ الفصائل المسلحة في مقابل ضعف الدولة، وغياب الرقابة الفعالة، جعل من لبنان نموذجاً كلاسيكياً للدولة المختطفة (Captured State).
بهذا المعنى، لم يعد توصيف “الفشل” مجرد اتهام خارجي، بل نتيجة حتمية لمسار داخلي طويل من التآكل المؤسسي والهيمنة غير الشرعية على القرار الوطني.
أولاً: القضاء المختطف… العدالة التي تُقاس بالولاء
يُفترض بالقضاء أن يكون الملاذ الأخير للعدالة، غير أن التجربة اللبنانية تُظهر واقعاً مختلفاً تماماً. تُشير دراسة صادرة عن Arab Center Washington DC إلى أن القضاء في لبنان بات رهينة للتجاذبات السياسية، وأن العدالة فيه تتأثر بالانتماء الطائفي أكثر مما تستند إلى القوانين.
أما تقرير TIMEP فقد وصف البنية القضائية بأنها “هشة ومنهارة”، تعاني من ضعف في الإدارة والموارد وتدخّل مباشر من القوى السياسية.
قضية انفجار مرفأ بيروت تُشكّل النموذج الأوضح لهذا الاختطاف: تحقيقات مجمّدة، قضاة يُمنعون من العمل، وضحايا بلا إنصاف.
في بلد كهذا، تصبح العدالة شعاراً معلّقاً على جدران قصور العدل، فيما الحقيقة مسجونة خلف حسابات النفوذ والمصالح.
ثانياً: الفساد المالي… من اختلاس المال إلى اغتيال الثقة
يُعتبر الفساد في لبنان نظام حكم متكاملاً أكثر منه ظاهرة عابرة. فإدراج البلاد على القائمة الرمادية لفريق العمل المالي (FATF) بسبب شبهات غسل الأموال وتمويل الإرهاب، شكّل ضربة قاسية لسمعتها الدولية.
وفي الداخل، تتوالى فضائح المشاريع الوهمية: من سدّ المسيلحة – البترون الذي ابتلع ملايين الدولارات دون أن يقدّم منفعة تُذكر، إلى الصفقات العمومية التي تُدار بمنطق الغنيمة لا التنمية.
النتيجة أن المال العام لم يُنهب فقط، بل فُقدت الثقة بقدرة الدولة على إدارة أي عملية إصلاحية. فحين تتغلغل الرشوة والمحسوبيات في كل مفصل، لا يبقى للإصلاح سوى عنوان نظري يُستعمل لتزيين الخطابات.
ثالثاً: الأمن المنفلت والدولة الموازية
من أخطر مظاهر الانهيار في لبنان أن السلطة الأمنية الحقيقية لم تعد بيد الدولة. ففي ظل ضعف المؤسسات الشرعية، تتعاظم سلطة الميليشيات التي باتت تُمارس أدواراً تشريعية وتنفيذية وحتى دبلوماسية.
تصريح المبعوث الأميركي بأن “الدولة هي حزب الله، وحزب الله هو الدولة” يُلخّص المأساة بدقّة. فالدولة التي تسمح بوجود جيشين وقرارين، تُسقط عن نفسها صفة السيادة.
وتؤكد الدراسات الأكاديمية الحديثة أن هذا الواقع يُنتج أنظمة أمنية هجينة تحكمها الولاءات المناطقية والطائفية بدل سلطة القانون، ما يجعل الأمن ذاته أداة للابتزاز السياسي.
أمام اللبنانيين خياران لا ثالث لهما. لبنان اليوم أمام مفترق مصيري:
1. الاستمرار في منظومة الانهيار: أي بقاء المال الفاسد والتهريب والسلاح المنفلت، وتكرار المسرحيات الانتخابية التي تُعيد تدوير نفس الطبقة السياسية.
2. الانتقال إلى مشروع الدولة الحديثة: دولة القانون، والمواطنة، والعدالة المستقلة، التي تُخضع كل مسؤول للمساءلة دون تمييز.
هذا الخيار الثاني لا يمكن أن يتحقق إلا إذا وُلد وعي جماعي يرفض التسويات الزبائنية، ويستعيد تعريف الوطنية بوصفها انتماءً للعدالة لا للطائفة.
خارطة الطريق: نحو إصلاح بنيوي شامل
إن خروج لبنان من مأزقه الراهن يتطلّب مقاربة إصلاحية جذرية تتجاوز المسكّنات الظرفية. وتتمحور هذه المقاربة حول خمس ركائز أساسية:
1. إصلاح القضاء: تكريس مبدأ فصل السلطات وضمان استقلال القضاء عن السياسيين.
2. إعادة بناء المالية العامة: اعتماد موازنة شفافة ورقابة حقيقية على الإنفاق.
3. تعزيز الحوكمة والشفافية: إنشاء مؤسسات رقابية مستقلة فعلياً، وتفعيل مبدأ الحكومة المفتوحة (Open Government).
4. إعادة تعريف مفهوم الدولة: من كيان طائفي إلى مؤسسات وطنية جامعة، تتعامل مع المواطن كمواطن لا كرقم طائفي.
5. وقف الإفلات من العقاب: لا إصلاح دون محاسبة حقيقية. فالعفو الذي يساوي بين الفاسد والنزيه هو تدمير للعدالة.
الإصلاح كخيار وجودي لا سياسي
لبنان اليوم لا يحتاج إلى المزيد من الخطابات أو المنصّات الإعلامية، بل إلى مشروع وطني صادق يعيد للدولة معناها ويسترجع ثقة المواطن بمؤسساتها. فإذا فسد القضاء، فسد المجتمع، وإذا تحوّلت العدالة إلى ترفٍ انتقائي، ماتت الدولة. من هنا، يصبح الإصلاح ضرورة وجودية لا خياراً سياسياً، لأن من لا يُصلح منظومته، يُسلّم وطنه لمنظومة الخراب.
إن لبنان أمام لحظة تاريخية، إما أن يختار الدولة والمواطنة، أو يظلّ رهينة السلاح والفساد، دولة تُدفن كل يوم تحت ركام الشعارات.